وسلهم عن رجال قالوا: آمنا بالله والملائكة والكتاب والنبيين، يشهدون أنه حق من اللّه تبارك وتعالى، وهم يسعون في الأرض الفساد، ويقتلون النفس التي حَرَّم اللّه تبارك وتعالى بغير الحق، ويأخذون الأموال، ويزنون، ويشربون الخمور، ويضيعون الصلوات الخمس، ويتبعون الشهوات. فقل لهم: أتشهدون أن هؤلاء سيلقون غَيّاً، أوْ تَشْهَدون أنهم من الأبرار الذين صدقوا وهم من المتقين؟!
فإن قالوا: هم من الذين يلقون غَيّاً، فقد صدقوا على اللّه تبارك وتعالى، وإن قالوا: هم من الأبرار الذين صدقوا وهم من المتقين، فقد كذبوا على اللّه تبارك وتعالى، وبدلوا قوله. فإن اللّه تبارك وتعالى يقول: ?فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصَرَفُوْنَ?[يونس: 32].
وقال اللّه تبارك وتعالى: ?أَمْ نَجْعَلُ الَّذِيْنَ آمَنُوْا وَعَمِلُوْا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِيْنَ فِيْ الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِيْنَ كَالفُجَّارِ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكاً لِيَدَّبَّرُوْا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوْا الأَلْبَابِ?[ص: 28 - 29] فمن كان له قلبٌ - نفعه اللّه تبارك وتعالى به، وحمده في دينه، ونفعته موعظة ربه - لم يكن في صدره حَرَجٌ أن يشهد على ما شهد اللّه تبارك وتعالى عليه، وأن يقول مثل الذين قال اللّه تبارك وتعالى: ?أُوْلَئِكَ الَّذِيْنَ صَدَقُوْا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُوْنَ?[البقرة: 177]، ويشهد على هؤلاء الذين سماهم اللّه تبارك وتعالى، [فـ]ـقال: ?إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيْمٍ وَإِنَّ الفُجَّارَ لَفِي جَحِيْمٍ?[الانفطار: 13 - 14] فمن جعله اللّه تبارك وتعالى في الجحيم كان من الكافرين، فليعتبر أولوا الأبصار في قولنا وقولهم.(1/51)


إنهم يزعمون أنهم يرجون لكل صاحب كبيرة - قد أوجب اللّه تبارك وتعالى بها النار -، الجنة. وقَنَّطهم الشيطان من رحمة اللّه تبارك وتعالى، وآيسهم من روح اللّه، أنهم إن شهدوا بما سمى اللّه تعالى لأصحاب الموجبات أدخلهم اللّه تعالى النار. فإن غفر اللّه تبارك وتعالى لأصحاب الموجبات كما يقولون، فهؤلاء - الذين شهدوا بما شهد اللّه تبارك وتعالى - أحق أن يُغْفَر لهم، إن اللّه تبارك وتعالى عدل لا يحيف في القضاء.
ويزعمون أنهم هم المهتدون والمصيبون في رأيهم. فسلهم عن رجل دعوه إلى رأيهم فاتَّبَعَهُم فواخوه في دينهم، فقال لهم: يا أخوتاه إني أريد أن أغزوا في سبيل اللّه تعالى فشيعوني، فخرج غازياً في سبيل الله تبارك وتعالى وخرجوا معه، فساروا قليلا ثم نزل فقدم سفرة له فأكلوا منها، ثم أنه سلم عليهم وسلموا عليه، وودعهم ودعوا له بحسن الصحبة والكلاءة في السَّفر، فسار حتى إذا كانـ[ـت الـ]ـصلاة الأولى قام فأذن للصلاة، فإذا هو برجل قد أقبل إليه، فقال: أنا أشهد أن لا إله إلا اللّه وأن محمداً رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم، وأشهد عليك أن شهادتك هذه كاذبة، وأنك كافر، وأن ذبيحتك علي حرام، وأن دمك لي حلال. ثم تقدم إليه فضرب عنقه، وأخذ ماله لنفسه، فبلغكم ذلك والقاتل والمقتول من أهل القبلة، وأهل الشعار، وقد قال تبارك وتعالى: ?إِنَّمَا الْمُؤْمِنُوْنَ إِخْوَةٌ?[الحجرات: 10]، فأخبروني حين قتله وأخذ ماله أعدوه هو والمخاصم له يوم القيامة، أم هو أخوه في الجنة على سرر متقابلين؟!(1/52)


فما شهادتكم على رجل قتل أخاكم في دينكم وحَرَّم ذبيحتكم التي أكلتم معه منها، فأخبروني أفي براءة منكم القاتل والمقتول، أم وفي ولاية، أم أحدهما في ولاية والآخر في براءة؟ فإن قالوا: نبرأ إلى اللّه من القاتل. فقولوا: ما اسم القاتل، أكافر هو أم مؤمن؟ فإن قالوا: هو مؤمن. فقولوا: إنكم برئتم ممن تولاه اللّه تبارك وتعالى، فإن اللّه تبارك وتعالى قال: ?وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِيْنَ?[آل عمران: 68]. وإن قالوا: كلاهما في ولاية منا. عَمُوا وصَمُّوا عن الحق، وكان صاحبهم المتقي المقتول والقاتل الفاجر عندهم سواء، واستخفوا بحق اللّه تبارك وتعالى: ?وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُوْنَ?[إبراهيم: 42].
وسلهم عن رجل قُتِلَ ابنُه، فأخذ قاتل ابنه فجاء بأربعة يشهدون عليه بالله أنه قتل ابنه، فجاء بهم إلى قاض من قضاة المسلمين فشهد الأربعة عنده أنه قتله، فسأل عنهم فوجدهم عدولاً مسلمين، فقال القاضي للرجل: ظَفِرَتْ يداك، خُذْ من القاتل كفيلا، وأرجع يومك هذا فأتمر بينك وبين نفسك، إن شئت دفعناه إليك غُدْوَة فتقتله بابنك، وإن شئت أخذت الدية، وإن شئت تصدقت بها على القاتل. فرجع الرجل وقد أخذ منه كفيلاً بهذا، فقال للشهود الأربعة: بما حكم القاضي بيني وبين صاحبي؟ قال الأربعة الشهود: نشهد أنه قد حكم بما أنزل اللّه تبارك وتعالى. فلما أن أمسوا ذهب القاتل في ليله إلى القاضي، فقال: إن عندي إثني عشر ألفاً قد عرضتها عليه فأبى أن يقبلها مني، فهل لك أن آتيك بها فتبري كفيلي وتخل سبيلي وتبطل شهادة الشهود؟(1/53)


قال له القاضي: نعم، ائتني بها. فجاءه بها، فلما أن أصبحوا جاء أبو المقتول بالشهود والقاتل والكفيل إلى القاضي، فقال القاضي لأبي المقتول: إذهب فإنه لاحق لك إن شهودك شهدوا زوراً، وبَرَّأَ القاتل والكفيل من كفالته، فرجع أبو المقتول والشهود، فقال أبو المقتول للشهود: إنكم شهدتم أمس إنه قد حكم بما أنزل اللّه تبارك وتعالى فما شهادتكم اليوم عليه حين غَيَّر حكمه الذي حكم به أمس؟ قال اثنان من الشهود الأربعة: إنه اليوم لم يحكم بما أنزل اللّه تبارك وتعالى، فهو: كافر، قال اللّه تبارك وتعالى: ?وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُوْنَ?[المائدة: 44]. وقال الاثنان اللذان شهدا أنه من المؤمنين: امرأتاهما طالقتان إن لم يكن من المؤمنين.
فقل لأهل البدع والباطل أرأيتم إن ابتليتم فَجُعِل أحدكم قاضي المسلمين، فجاءتا امرأتا الرجلين الذين شهدا على القاضي إنه من الكافرين، فقالتا: إن رأيتنا حلالا فأرددنا إليهما، وإن رأيتنا حراماً ففرق بيننا وبين أزواجنا، وقالتا المرأتان اللتان طلقهما زوجاهما - إن لم يكن القاضي من المؤمنين -: ونحن إن كنت ترانا حلالا فردنا إلى أزواجنا وإن كنت ترانا حراماً ففرق بيننا. فعند هذا القضاء تدحض حجتهم، ويضمحل باطلهم ويعمى عليهم أمرهم.
فاسألوا اللّه الهدى والبصائر والعمل والفقه في دينه، فإنكم قد أصبحتم على ريبة من أمركم يا أهل البدع.
وسلهم عن رجل ركب فرسه وتقلد سيفه ثم ذهب فقطع الطريق على المسلمين، فقتل المؤمنين وأخذ أموالهم، وأخذ الربا، وشرب الخمر، وقذف المحصنة، وترك الصلاة، فإذا قيل له: أرأيتك هذا الذي تعمل حلالا هو أم حراماً؟ فيقول: لا، بل حرام من اللّه تبارك وتعالى.(1/54)


فسلهم: أهو ممن يشفع له محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم والملائكة عليهم السلام؟ فإن قالوا: لاندري. شكوا فيما أنزل اللّه تبارك وتعالى على محمد صلى اللّه عليه وآله وسلم، وإن قالوا: نعم. كذبوا على اللّه تبارك وتعالى؛ لأن اللّه تبارك وتعالى يقول في كتابه: ?وَلاَيَشْفَعُوْنَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وُهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُوْنَ?[الأنبياء: 28].
وسلهم عن هذا الرجل أكافر هو بالله تبارك وتعالى ورسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، أم هو مؤمن بالله تعالى ورسوله؟ فإنهم سيقولون: هو مؤمن بالله تبارك وتعالى ورسوله صلى اللّه عليه وآله وسلم، فقل لهم: فإن اللّه تبارك وتعالى يقول: ?سَابِقُوْا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ ربكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِيْنَ آمَنُوْا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ?[الحديد: 21].
فإن قالوا: لاندري. شكوا فيما أنزل اللّه تبارك وتعالى، ولم تطمئن قلوبهم إلى قول اللّه تبارك وتعالى: إنه سينجز وعده.(1/55)

11 / 55
ع
En
A+
A-