وهذه الأقسام التي ذكرناها لسنا نعم بها، فإنا قد قدمنا في صدر كتابنا أن الإمامة إنما قامت شواهدها ورسخت قواعدهابالعلماء والأفاضل من أهل البيت عليهم السلام، وأتباعهم من علماء الإسلام، وإنما قد علموا وعلمنا أن ما ذكرناه قد كان، ومع ذلك أنا لا ندعي عصمة مقطوعا بها في أنفسنا، وقد عاتب الله تعالى أنبياءه وعدلهم جرما وذنبا, من نحو قوله تعالى: { وعصى أدم ربه فغوى وعتب على الذاهب مغاضبا وامتحنته } , وامتحن يوسف عليه السلام بسبب قوله: { اذكرني عند ربك في آن أنساه الشيطان ذكر ربه } , وقال لمحمد عليه أفضل الصلاة: { عفى الله عنك لم أذنت لهم } , وغير ذلك, ولم يخرجوا بذلك عن أن يكونوا صفوته من خلقه, وأمناءَه على وحيه.
كذلك نقول: إن كان لنا ذنب في رأي أو غيره, مما لم نقصد به معصية ولا نتعمد على ربنا جرأة, من باب التأويلات وما يجري مجراها، فإن اختيار الله تعالى لنا للإمامة غير زائل, وحكمه بسبقنا على أهل عصرنا غير حائل، فإن عليا عليه السلام وهو الحُوَّل القُلَّب يقول في تولية محمد بن أبي بكر رحمه الله لمصر وعزل قيس بن سعد عنها:
لقد زللت زلة لا أعتذر ... سوف أكيس بعدهاوأ عتبر
وأجمع الرأي الشتيت المنتشر
وكذلك ولاتنا وأمراؤنا ومن يتصرف عنا, يحوز أن يخطئ الواحد منهم خطيئة يستحق بها عزلا وإقصاء وبعدا، ويجوز أن تكون خطيئته مما تبقى معها ولايته، فلا تبطل عندها سعايته، فيقوَّم من أَوَده, ويُشفى من لدده، ويقال له: لعا من عثاره, ولا يزاد خطبا في ناره، ويجوز أن يكون فيهم المحسن كثيرا، ومن إحسانه أكثر من إساءته، ومن لا يقوم مقامه غيره, ولا يسد مسده سواه، ويجوز أن يكون فيهم من قد استتر عنا حاله, واختلف مقاله وفعاله, ولسنا نعلم الغيب, ولا ندعي العصمة التي عم الله بها عموم ملائكته وأنبيائه، وجاز أن يختص بها بعض أوليائه, من غير أن يقوم بها فيه دلالة, ولا يشهد له بها آية ولا رواية.
---(1/31)
ونحن نقول: هلم إلى المعاونة على البر والتقوى التي أمر الله تعالى بها، وفتح بين المسلمين غلق أبوابها، حيث يقول سبحانه: { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان ومعصية الرسول واتقوا الله إن الله شديد العقاب ? , وقد علمتم وفقكم الله وهداكم, وحرسكم عن معاصيه وكلاكم, طريقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعموم وجوبهما على الكافة مع تكامل شرائطهما, وشرائطهما بحمد لله فيكم متكاملة، وفروضهما على الجميع منكم حاصلة، فمن علم من أهل العلم أو غيرهم ممن يعرف المعروف أو ينكر المنكر من أحد من ولاتنا أو أمرائنا، ومن يتصرف عنا من أخ أو صاحب أو خادم أو متصرف في جليل أو دقيق خللا أو رأى منكرا، أو ظلما، أو عسفا، أو ضياع حق، أو جورا في رعية، أو حيفا في قضية، أو تسلطا على الناس، أو قلة التفات على الصواب، أو استخفافا بحقوق المسلمين، أو جهالة بحرمة الدين، أو قبيحا يختص به المقصود في نفسه, ولم يكن من باب الظنون والتوهمات التي تضعف أمارتها، أو مما يستند إلى المنقولات الواهيات، أو من التجسس الذي نهى الله تعالى عنه, أو من الظن الذي أخبر الله تعالى بأن بعضه إثم، وهو الظن الذين يستند إلى غير أمارة, أو إلى أمارة لا يُعتمد عليها، فقد قال تعالى: { ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا } , وقال تعالى: { إن بعض الظن إثم } .
---(1/32)
فقد أمرناه بشيء قد أمره الله تعالى به، وهو أن يقوم بذلك الفرض، أو يغير ذلك المنكر، أو يقيم تلك السنة، أو يمحو تلك البدعة، أو يأخذ للمظلوم من ظالمه بحقه، أو يصغر المنكر في نفسه، أو يقوم المصغَّر من خده, قاصدا لله تعالى في فعله، لا لغرض يريده من إسماع قاله، أو تفخيم حاله، أو كسب هيبة، أو تحصيل جلالة، بل لما أمر الله تعالى به من تقويم الأَوَد في الدين، وقمع ما نجم من فساد المفسدين، فإن القاصد لما ذكرنا يبارك الله له في فعله،، ويمضي قوله, ويُتَّبع أمره، ولا يَقُلَ في نفسه: أنا صغير عن هذه المنزلة، أو صاحب هذا الفعل كبير، آن أمره وأنهاه، فإن كلمة الله هي العليا, وأمره هو الأولى، وليس أحد فوق أن يؤمر بتقوى الله, ولا دون أن ينهى عن معصيته، والقائم بأمر الله نائب عن ولاة أمر الله، من نبي أو وصي, أو إمام أو ولي، وما نفذ من ذلك ومضى, أصاب به الغرض لنفسه ولنا، وما تعذر عليه من ذلك لتعذر نصره, أو قلة قدره, أو عدم منفذ أو بُعد أعانة من منفذ, أنهاه إلينا, وبث شكواه علينا، فإنه يجد منا في كل شيء وضحت سبيله, وأنار دليله، ما يقمع كل ظالم, ويرد بغيظه كل آثم، ويصغر كل متكبر, ويذلل سلطانُ الله كلَ متجبر، وإلينا يرجع الغالي, وبنا يلحق التالي، ونحن أولوا الأمر المردود إليهم مشتبهاته، والمطلوب من لديهم أدلته وبيناته، قال تعالى: { ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم } , وقال تعالى: { وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم } وهاتان الآيتان لنا وفينا أهل بيت النبوة، وأمرنا من أمر الله وطاعتنا من طاعته، ونحن عِدل الكتاب, والحجة الناطقة بالصواب,وقال صلى الله عليه: (( إني تارك فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا كتاب الله وعترتى أهل بيتي إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض )) ، وهذا يكون في الجملة بالإتفاق من أهل البيت عليهم السلام ---(1/33)
وأشياعهم، واتفاقهم حجة بما لا يسع هذا المسطور, ويكون في الآحاد منهم, وهم ولاة الأمر لما تقدم من الأدلة على وجوب الانقياد لولاة الأمر، والاقتفاء لآثارهم, والاهتداء بمنارهم، ولِماَ جعل الله تعالى لهم من الولاية التي حتمها، والزعامة التي أحكمها, ولما ورد به الأثر المنقول, في ذرية الرسول: (( إن عند كل بدعة يكون من بعدي يكاد بها الإيمان وليا من أهل بيتي موكلا، يعلن الحق وينوره ويرد كيد الكايدين، فاعتبروا يا أولى الأبصار )) ، وفي هذا أبلغ الدلالة على أن الواحد من ولاة الأمر، يقوم مقام الجملة في وجوب طاعته والتمسك بأمره، والأخذ بقوله, والاقتداء بفعله.
ونحن أيضا نقول: من صلح لأمر من أمرنا، من ولاية في قضاء، أو تصرف في قبض أو إعطاء، أو إمارة جيوش، أو أمر بمعروف، أو نهي عن منكر، أو دعاء إلى دين، أو إيضاح ليقين، فإنه يجب عليه أن يبرز صفحته لنا, ويعرض أمره علينا، وقد ألزمنا كل واحد ممن ذكرنا عراضة نفسه، والقيام بفرضه, ومعاونتنا على ما ذكرنا ومن تقاعد مع ذلك عنا كان كلامه واهيا، وحجته ساقطة، ونصحه غير مقبول، وباطنه مدخول معلول، ونحن نأمر بذلك جميع من وقف عليه، وبلغه من المسلمين من العلماء الراشدين, والمتعلمين المسترشدين، ومن يَقْفُوهم من سائر أهل الدين, فيما يتعلق بأمور أهل التقوى واليقين، لا سيما مع أمرنا بذلك لكافتهم, بعد أمر الله تعالى بالمعاونة لجماعتهم، وإن كان التكليف شاقا والأمر صعبا، فهو باجتماع المسلمين عليه يسهل، وبتظاهرهم على القيام بفرضه يتم ويكمل، والله تعالى أمر بالقيام بذلك عاما، وإنما جعل لهم من أنفسهم في أحكام ذلك الأمر نظاما, سماه هاديا وإماما، وأمرهم بتوقيره وتعزيزه, وتعظيم أمره وتكثيره، فعليه فرض وهو ألا يخل بما أمر به، وعليهم مثل ذلك في حقه, فأقل أحوالهم إن كانوا من المقصرين, أن يكفوا عنه المطاعن:
ليت حظي من أبي كرب ... أن يسد خيره خبله
---(1/34)
فأما نحن في أنفسنا، فمن أشكل عليه أمر, أو اشتبه عليه حال في سيرة أو قضية, أو ولاية أو رعية، يختص بنا أحكامها ويتعلق بأكفنا زمامها، فليواصلنا أو يراسلنا على قدر إمكانه، كاشفا قناع المساترة, آمنا سطوة الجبابرة، فليعرض ما معه، ولينقد ما جمعه, حتى تميزه نُقّاده، ويتضح له إصداره وإيراده، ويكون قد رجع إلى من أمره الله بالرجوع إليه، واعتمد على من أوجب الله الاعتماد عليه، فإن آل محمد صلى الله عليه وعليهم هم ماء الحياة, وسفن النجاة، وهم الذين أوجب الله في كتابه مودتهم، وأوضح على لسان نبيه محجتهم، قال تعالى: { قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى } وقال صلى الله عليه وآله: (( مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق )) ، وإن كان لا يجب علينا بعد ثبوت الإمامة بالأدلة الواضحة, والبراهين اللائحة, المباحثة على السيرة، والاحتجاج على كل صغيرة وكبيرة، ولكن هذا زيادة في الحجة, ومحبة الإيناس والمعاونة على نفي الشبهة, لمن جاز أن يُلَبَّس على نفسه, أو تلتبس عليه جلية يقينه لعارض لَبْسِه، ولعل ذلك يكون زيادة في الإيمان, واستظهارا بالاطمئنان, لمن يجوز أن تعتريه الشبهات, أو تغيره عن سنن الرشد التمويهات، فإن الناس بين مستقيم وميال, ومختدع بلامعٍ آل عن سلسال زلال.
---(1/35)