وأما الثاني فهو أيضا مثله يطعن في فروع قد سلم أصولها، ويعترض في الولايات بأمور ما تيقن محصولها، فهو من دخيلته في زلزال، ومن باله في بلبال، ومن كلامه في شجون متعارضة, وأمور متناقضة، إن طعن لم يستيقن مقاله، وإن أمسك لم تطاوعه عوارض باله، لكنه آثر ما سمعه على ما رءاه, وقدَّم هواه على هداه, ونسي ما قاله قدوة الهداة، علم الحق الأواه, علي بن أبي طالب عليه أفضل السلام والصلاة، حيث يقول: (( أما أنه ليس بين الحق والباطل إلا أربع أصابع فسئل عليه السلام عن معنى قوله هذا؟! فوضع أصابعه بين أذنه وعينه، وقال: الحق أن تقول رأيت، والباطل أن تقول: سمعت )) .
ودواء هذا المعترض ما يجده من نفسه من عداوة وقادة, أو حسيفة معتادة، بأن أبرز مكامنه, وأظهر مطاعنه، أصاب أم أخطأ، أسرع في رضي ربه أم أبطأ، ولم يعقل أن الولاية وكالة يتقلدها الأمين، وحالة يحبى بها الضنين، وقد فعل ذلك سيد المرسلين, واقتفاه في فعله إمام المتقين, فولى صلى الله عليه الوليد بن عقبة. وهو أحد صبية النار, بنص النبي المختار، ومَن نص الحكيم على فسقه في آيتين من كتابه الكريم، وولى صلى الله عليه عمرو بن العاص في البعث الأكبر, وهو المقصود بأنه الشانئ الأبتر، وخالد بن الوليد سماه سيف الله المسلول, مع أنه حكم في الدم المطلول, برفض المسموع وتحكيم المعقول، وتبرأ صلى الله عليه من فعله. ومع ذلك لم يقض بتحريم ولايته, ولا تأخير إمارته، بل جعله بعد ذلك أمير الجيوش الإسلامية، واجتمع المسلمون على إمارته بمؤتة، واقتفى أبو بكر في ذلك أثره، وكان من خالد في بني تميم ما قبحوا به خبره, وتبينوا به مخبره.
---(1/26)
فأما أمير المؤمنين عليه السلام فإنه ولى أبا موسى الأشعري وهو يشير إليه بالخيانة، ويظهر أنه ممن يموه على المسلمين بالتعمق في الديانة، وكذلك زياد بن أبيه وغيرهما، ويكفى المستبصر ما ذكره عليه السلام عند صفة أصحابه من قوله:(( يا أشباه الرجال ولا رجال )) إلى أن انتهى إلى آخر كلامه فقال: (( لو ائتمنت أحدكم على قعب، لخشيت أن يذهب بعلاقته )) أتراه أيها المعترض ولا هم مع اعتقاده لخيانتهم ؟! وهو الناطق بالحق، والمتولي للبيان في ذلك الأوان ؟! أو ترك ولايتهم حتى ضاعت الأقطار, واستبيحت الثغور وعفت من الدين الآثار؟!
فإن قلت: بالأول، فهو الذي قصدناه في معنى الوكالة، وإن قلت بالثاني، فهو مما علم أنه لم يقع، حتى قُبِض سلام الله عليه ورضوانه, على أن من قاس الأمر بالأمر علم أنه عليه السلام كان في القرن الثاني والثالث من الذين قال فيهم نبينا صلى الله عليه وآله: خيركم القرن الذين بُعثت فيهم، ثم الذين يلونهم, ثم الدين يلونهم )) فإذا كان الأمر في أهل زمانه عليه السلام مع قربهم من رسول الله صلى الله عليه وآله, وكونهم خير الأمة هكذا، فكيف يكون حال أهل زماننا الذين هم حثالة التمر, ونفاضة العلم؟! فإذا اضطر عليه السلام إلى ولايتهم, والاستعانة بهم, وهم على تلك الصفة, لئلا يبطل الجمهور من أمور الدين، فنحن كذلك أيضا.
وأما الثالث وهو المتفجع فإنه قرى وما درى, وجهل أحكام الولاء والبراء، والله تعالى يقول لنبيه نوح عليه السلام لما عطفته على ولده عواطف الرحم والرحمة, عند همول سحائب العذاب والنقمة: { يا نوح أنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح } هلا رجعت عن أبعد الصحابة, كما رجع نوح عن أقرب القرابة، وعلمت أن حق الله أولى بالرعاية, ودينه أحق بالذب والحماية, على أن هذا طعن في السيرة وقد قال بالإمامة, أو تعرض أن أصولها بعيدة عن السلامة, قريبة من السلامة.
---(1/27)
وأما الرابع وهو الشاكي لنفسه ولغيره من سوء الحظ, وقلة ذات اليد، فهو يوجه الملام إلى من لم يخط ولا ألام، والأرزاق عندنا قضايا قدرية, وأمور سماوية, (( لا يجرها حرص حريص، ولا يردها كراهة كاره )) ، كما ورد في الخبر عن سيد البشر على أن ما كان إلينا من ذلك فقد بذلنا فيه جهدنا، وأدينا وجدنا, توخَّيّاً لمواضع الحاجة والاستحقاق, أو المصلحة في الدين، كعطايا المؤلَّفين على قدر ما أدى إليه اجتهادنا, ووقع في أيدينا من رزق ربنا, والقسمة أيضا من حملة السيرة, والاعتراض مع تسليم أصولها يؤذن بضعف البصيرة, على أن الذين نأخذه هو الصدقات، وهي كانت في الأصل تضيق بالفقراء، فكيف تَسع بجميع الوجوه المصروفة فيها اليوم, لو لا لطف الحكيم بالبركة فيما قسم على هذا التقسيم.
وأما الخامس وهو الشاكي من سُدة باب أو شدة بواب، فإنه لم يخلص السريرة, ولا نظر بعين البصيرة، لأن من له أدنى خبرة يعلم أنه لا يمكن قضاء حاجات الناس دفعة واحدة، بل يتمانعون ويتدافعون لا سيما مع عدم الكفاءة وقلة المعاونة, على ما يلزم أهل الديانة، وكأن القائل بذلك ما سمع نهي الله تعالى عن دخول بيت نبيه وغير نبيه إلا بإذن, وأمر بالرجوع عند عدم الأذن، فقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم } ,وقال تعالى: { يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلكم خيركم لعلكم تذكرون فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا هو أزكى لكم والله بما تعملون عليم } .
---(1/28)
على أن ذلك إنما كان متوجها أو مقبولا لو كنا خالين على اللذات, أو منافسين في طلب الراحات، وليس الأمر كما ظنه، بل إنما خلو بشغل عن شغل، وبزيد عن عمرو, فما ننفك ليلا ولا نهارا، ولا نطعم العيش إلا نزرا، ولا النوم إلا غرارا، نذكر ذلك تعريفا لا افتخارا، مع أن ذلك المتحدث يلوم عليه فإذا دخل وخلا بحاجته عذر نفسه, وبسط أنسه, وأمر بإيثاق الباب, وشدة البواب، وغلظة الحجاب, حتى يقضي حاجته ثم يخرج معتذرا عنه وعنا, وعاذرا فيما كان من قبل يعيبه منا، وليس بينه وبين أن يعود لائما, أو يصبح بغيظه كظيما لا كاظما, إلا أن يعود لحاجة أخرى, يوضح دون قضائها بفورها عذرا، ثم يرجع يُهينم في نفسه بالملامة, ويهز رأسه إيهاما لوَهَن وَجَدَه في هذه الإمامة، وقد خبرنا هذه الأحوال, وتصفحنا هذه الخلال، فوجدناها كذلك علما يقينا، وإتقانا رصينا، مع أن لنا بأبينا صلى الله عليه أسوة في رد خير الناس من بابه، (( وأمره صلى الله عليه وآله بالشدة في حجابه, حتى انقلب علي عليه السلام عن أنس بن مالك ثلاث مرات )) وهو (( خير البشر, بعد النبي صلى الله عليه )) بنص الخبر.
وأما السادس وهو المعذَّر في لزومه قعر داره, وحل أوتاره، فإنه على قسمين:
أحدهما: أن يكون صادقا على عظم المشقة وبعد الشقة، فيكون معذورا عند ربه, وداخلا تحت قوله: { ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الدين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله } , وقال: { ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع خزنا ألا يجدوا ما ينفقون } ,فإن الله تعالى عذر النبي صلى الله عليه فيهم وعذرهم عنه، هذا ما لم يضم إلى عزمه ملاما, فيقترف بذلك حوبا وأثاما، فيكون معذورا غير مشكور، ومبتلى غير صبور.
والثاني منهما: أن يكون غير صادق في عذره, ولا منقوص في أمره، فهذا قد جمع بين وجوه من الإثم:
أحدها: الكذب.
---(1/29)
والثاني: الاعتذار عن الواجب بما ليس بعذر.
والثالث: الطعن علينا, وخصم هذا ربه وهو المجازي عنا يوم القيامة، يوم الحسرة والندامة، يوم الآزفة والطامة، ? يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، وما عملت من سوء، تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ?.
وأما السابع وهو المعتذر بكثرة ماله, وصولة أطفاله، وترادف أشغاله، فجوابه في قوله تعالى: { سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا... } الآية. فإن الله تعالى لم يعذرهم بذلك, ولم يخرجهم من قسم مالك، وحكم عليهم بالمهالك، وعدل بهم عن نجاة المسالك.
وأما الثامن وهو الذي يعتقد أنه حُط عن منازل أمثاله, وقَصُر به عن درج أشكاله، فجعل ذلك عذرا عن الجهاد بنفسه أو ماله، فجوابه في قوله تعالى: { ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر } , وفي قوله تعالى: { ولا تمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } , على أنه لا يمتنع أن يكون اعتقاده في نفسه ذلك، وإمامه يرى أنه ليس ممن سلك في هذه المسالك، بأن يكون أقل كفاية, وأنقص ممن لحظه بالحسد عناية ورعاية، والإمام يؤثر اجتهاده على إجتهاد، وما رآه من المصلحة على مراده، { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم } , على أن هذا إذا لم يجب على الإمام, لم يكن تركه مطعنا عند كافة أهل الإسلام, على فحوى ما تقدم من الكلام.
---(1/30)