ونحن في خلال ذلك نعلن بالانتصار, وندعو الكافة إلى طاعة العزيز الجبار، فكان الجواب أنهما عادا بعد مدة إلينا يُزحيان جيشا حشو الغدر, وشعاره ودثاره النفاق والمكر، فوصلوا لتشتيت الشمل, ووقوع الخبل, كما قال تعالى في قصة المنافقين: { لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولا وضعوا خلائكم يبغونكم الفتنة } . فكانت هذه حالهم بغير مرية, حتى جد أمرنا في الخروج إلى نحو الشهابية، فخرجوا للفساد معنا بعد أن مضى جمهورهم، وتفرقت أمورهم، وتسللوا لواذا، واتخذوا الخداع اتخاذا، فلما وصلنا قرب البلاد، أرسلوا إلى إخوانهم من أهل العناد، ألا لا يهولنكم ما نحن عليه من الإبراق والإرعاد، فهو حظنا مع صاحبنا لا نريد القتال ولا الجلاد، وأخذوا في التخذيل, وتزهيد الناس فيما نحن عليه جيلا بعد جيل، حتى تضعضعت أمور المسلمين، وظهرت سماة الغلب على الصالحين، وخالفوا قوما على قتلنا ونحن وهم في مكان واحد، فذرنا بهم, وأحسسنا ما قد أعملوه من مكرهم، فصدوا خاذلين, وولوا على أعقابهم متقلبين، وهذه خليقة لم يرضها مسلم, ولا تظاهر بمثلها مجرم، لأن كثيرا من الكفار بأعمال أهل النار, يتنزه عن أن يكون بصفة الغُدَّار.
وقبل هذه ماسوَّد ولد أميرهم, وسليل رئيسهم وكبيرهم, ثوب الإسلام, بما فعل مع أهل تًنْعِم الأباة الكرام، من بيع ثغره بألف مثقال، وصدوره عنه على أقبح حال، يتبختر في ثوب الغدر, ويتحلى بحلية أهل المكر، ويجيب عند عتابه أن أباه أرسل إليه, وخرج في تخليه سد ذلك الثغر عليه، فهذا هو النكث على الحقيقة, والبوار العاجل عند هذه الخليقة، أتأمرون الناس بالوفاء, وشيمتكم مع المسلمين ما ذكرنا ظاهر لا عن خفاء؟! ? أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ?، أتعيرونا بقلة الوفاء بالعقود, ولكم ما تقدم من الفعلات بعد العهود المؤكدة, والأيمان المغلطة؟!
---(1/16)
ولما توجهتم معنا نحو صنعاء، تريدون النصرة على الدين, والإدالة بما مضى منكم في حرب المسلمين، واجتمعنا في البلد بملازمة الثغر, نَجَمَ من نفاقكم, وظهر مر سيء أخلاقكم, ما تحقق معه الناس خبث سرائركم, وفساد ظواهركم, لم تتركوا عمولة في روح, ولا مواصلة لعدو, ولا دلالة على عورة لمسلم، يشهد بذلك ما كان من طلوع علي روهاس ليلا إلى براش, وهو بزعمه الناصح الناصر، وما فعله داود في الملاقاة للأسد ومماليكه في مثنى الغواير, من غير مانع ولا حاجرو وأظهر من ذلك خلافا ما عمل مع المشطوب, من سلامته من تحت السيوف, وإخراجه لا عن أذن أحد بل على رغم الأنوف، وأثبتوا العمولة فينا يوم الجبوب، فلم يسعدهم الجد ولا ساعفهم المطلوب, بل قصَّرت عساكر الحق من هممهم، وقلَّت عزائمنا غروب دعمهم, وصبرنا منهم بعد ذلك على أَمرّ من العلقم, وآلم للأجسام من سم الرقم, ومضرتهم ممكنة لنا، واستئصال شأفتهم غير معجز لمثلنا, وإنما تركنا ذلك كرما في الطبيعة, وبعدا من الأفعال الشنيعة، وفي خلال الرباط منهم والصبر, تنزل عليهم تحف الصليحيات بالخمر, يتساقاها منهم أولوا الفخر, نقل منهم من شهد الأمر, واطلع على مكنون السر، ونحن نتجرع غصص الاصطبار, ونتخلق لتأليفهم وتقريبهم تخلُّق الأحرار، ونطمع في أن ينتقلوا عن عمل أهل النار, إلى أعمال المتقين الأبرار، وهيهات أن يُجتنى من الشرى أريا شافيا, ويمترى من ذكران المعز حلبا صافيا.
ودع عنك نهبا صيح في حجراته ... ولكن حديثا ما حديث الرواحل
---(1/17)
جعلناه زعيم جيوش المسلمين، وقلدناه سد الثغر المنفتح علينا من اليمن فباع ذلك بعرض من الدنيا يسير، وقدم إليهم خاتمه ذمه في كونه منهم، وذلك أمر ظاهر, وقد أقر به عند من يوثق به, ولما غنم المسلمون غنيمة من أعداء الدين، طلبهم بردها بعد رد ما وقع في يديه, وقبل بهم نحونا يهديهم هدى العروس, ويطأ بهم ربع الإسلام المأنوس، فلما طال عليه أمد النفاق في بيت رحال، شمر للغدر عن الأذيال، وفارق زافرة, يا لها من زافرة رافضة للدنيا مقبلة على الآخرة، فحل من الكفر في بحبوحته, وسكن من النكث في صميم أرومته، وكم من ذمة خرمها من صنعاء إلى يومنا هذا !!! من مأسور قتل بعد الذمة، ومعتق أوثق بعد المنة بإرساله, يشهد بذلك ما كان في صعدة من قتل ابن زيدان والعَلَم في يده, وأخذ ابن النجار وأمارته والذمة على إرساله وولد محمد بن فليته وما فعل معه، وجفر بن يحيى، وذمه حمزة بن حسين على روحه وما يملكه, وأخذه وهو في خيمته، وعلي بن صفى الدين بعد ذمة عز الدين عليه, وأخذ أحمد بن عواض بعد الذمة من علي بن عمرو، وما كان في شأن السويدي من أنواع التخليط, ونهب بيوت لا تحصى بعد الذمة وهي بيوت أهل سمارة كافة، فإنها ما أخذت إلا بعد الأمان الظاهر, وتأكيده بالعَلَم على السطوح.
---(1/18)
ثم أفعالهم الشنيعة, في رؤوس علماء الشيعة وتراجمة الشريعة، وذمتهم على دار الفقيه محمد بن أبي السعادات وأخذها بعد ذلك، والعَلَم على رأسها, ومن غدرهم الطري, ما جرى في دار الشريف المجزري، وإحراق علمهم الفري الزري، وكذلك القُليعة وبنوال أحذتموهما بعد الأمان الأكيد، وكيف يمكنكم تدَّعون مثل ما ندعي وأنتم على خلاف ما تعلمون من مذهب أبيكم وآبائكم جميعا؟! بل كيف وأنتم تخوضون في أموال المسلمين ودمائهم بغير دعوة ولا كتاب ولا سنة؟! وبين أيديكم من فعل المنكرات ما لا يمكن دفعه!! بل كيف وتائبكم إذا وُفَّق يتوب إلينا, ويقر بقبح ما هو عليه وبصحة مذهبنا، وهل تاب أحد منا إلى ما أنتم عليه عند مماته، أو جادل على صحة ما هو عليه في حياته، فهم كما قال الله تعالى في أهل الكتاب: { وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا } .
وأصحّ مذاهبهم في هذا قولهم: نفسد عليه ونكدر عيشه كما كدر عيشنا، فهذا وجه بَيّن ومذهب معقول دون غيره، ونحن في دنيا مشوبة بالتكدير, وطريق مقرون بالتغيير، لا نبالي فيها بتكدير عيش ما أطعنا الرحمن، وسلمت الأديان، ? قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ?.
---(1/19)
إنما يحزن على النعمة أهلها, ويتبرم بمفارقة اللذات مَن اعتادها, وكم عسى أن يكون نعيمها وهي إلى زوال؟! وراحتها وهي إلى تغير وانتقال؟! إنما المكدر للذاتها, مَن حمل أهلها على مفارقة عاداتها, من شرب القهوات، وإذهاب الأوقات, في غير الطاعات، وانتظار الصلوات بعد الصلوات، ونقل الخطى إلى الجماعات، وإسباغ الوضوء في السبرات, وهو لا يزال شجا في حلوقهم، وقذى في عيونهم، ما مد الله مدته, وبسط بسطته, فليموتوا بغيظهم كظما، وليستبدلوا بوجود ملكهم عدما, وعن قريب يظهر الحق على الباطل، ويتميز المستقيم من المائل، { وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا } بين مَن قرباؤه الصالحون المهتدون، وبين مَن خلطاؤه المردة المفسدون، وبين مَن ناصره رب العالمين، ومن يعتمد في نصرته على الكفرة الجاحدين, والباطنية الملحدين، وبين مَن عيون أنصاره العلماء، ومن عيون أصحابه المترفون, ? وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذين ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ? , ? الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وأتوا الزكوة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ? ، وإن صال العدو صولة لا عن دولة, فكثيرا ما صغَّرته سيوف الحق وتركته خاسئا، وما كان أولا فمثله يكون ثانيا, ? لا يغرنك تقلب الذين كفورا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد، لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها خالدين فيها نزلا من عند الله وما عند الله خير للأبرار ?.
ومن عجائب ما ألّفوه, وجالب ما زخرفوه, أن قالوا: بأنا منعنا من بلادنا, وخلينا عن طريفنا وتلادنا، فاستعنا بالكفار, على بلوغ الأموال والديار. وقالوا يجوز لنا ذلك كما جاز للنبي المختار، حيث استعان بخزاعة الأنصار, على حرب قريش الأشرار.
---(1/20)