فلا والله ما قارفت ذنبا كبيرا ... مذ ملكت جفون عيني
وهذا نعترف به أيضا وهو خليق به صلوات الله عليه، ولكن نقول نحن ندلي به وندعي مثل دعواه, ولا يمكن أحد تكذيبنا إلا مباهت, كما لم يكذبه سلام الله عليه من الفرق الضالة في قبيلة إلا مكابرْ فنقول والله ما عرفنا كذبة, ولا تدنسنا برذيلة, نقول ذلك تعريفا لا افتخارا, وتبصرة لمن يريد أن يكتسب في أمرنا استبصارا.
فالحمد لله الذي طهرنا من الأدناس, وقضى لنا بالفضل والبسطة على كافة الناس, وهو ? الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ? ، وكذلك نقول كما قال المنصور بالله عليه السلام: ما بيننا وبين محمد صلى الله عليه وآله إلا مثل ما ذكره من أب أو أم، وكان ذلك الصف مستقيما, فردناه ترصيصا وتقويما, وشيدنا بنيانه تكريما وتعظيما، فإن جاء بعدنا ولد يخالف معتادا, أو جعل في الثوب الأبيض سوادا, فلا بلَّغه الله ولا بارك فيه ولا جعل له في آل محمد نسلا، لأن من تقدمه من أبوته قد أخرجه بفعله عن أن يكون له أهلا.
ووجه أخر: وهو أن ما يدعيه المنصور بالله عليه السلام نحن شركاؤه فيه، فإن كثيرا من جداته الطاهرات هن جداتنا, فهو ثوب نحن نتجاذبه, شرف تلوح فينا كواكبه.
ووجه أخر: وهو أنا ورثته دونهم، لأنا منه, وما كان من شرف الدنيا والآخرة فقد ورثناه قولا وفعلا, ونسبا ومذهبا, وعلما وعملا,? أن أولى الناس بإبراهيم للذين ابتغوه، وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين ? وهم معه كولد نوح صلى الله عليه، حذو المثال بالمثال, وما زلنا نطرز المنابر بذكره, ونحلي المقامات بذكره وشكره، ما قصدنا بذلك إلا الخروج عن عهدة ما يجب علينا من حقه, ولو عقلتم ولن تعقلوا لشكر تمونا على ذلك، فإن رجلا لو ورد بقصيدة يمدحكم بها لعظمتم من شأنه, ورفعتم من مكانه, ومدحُ أبيكم أشرف لكم, وحقه أوجب عليكم, ولكن لا تمييز!!
---(1/11)
ووجه رابع: وهو المصيبة الكبرى, والفافرة العظمى, انظروا إلى الصف الذي كان فيه هل بقي بعده, أو سعيتم في نقض ذلك البيان المرصوص؟! فهل يشده ويشيد بنيانه وتأتون فتخربونه وتهدمونه؟! ثم تكونون معه يوم القيامة!! فلماذا أُرسل الرسول, وأنزل الكتب, وأرصد الوعد والوعيد, وأعد الثواب والعقاب؟! إن ألحق المسيء بالمحسن, والكافر بالمؤمن؟!! ? ليس بأمانتكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سواء يجزيه ?.
فأما الذي تدَّعونه علينا من قلة الوفاء، فإن كان هذا عذرا فيما فعلتموه من الأفعال القبيحة، فإن الإنسان لا يكون معذورا فيما يفعله من المعاصي لأجل إساءة غيره إليه, وقلة وفائه له، الكفر لا ينباح بما ذكرتم لو صح، ? أحسنوا حيث أساء الناس ? كما ورد في الخبر مع أنا لم نفعل شيئا مما ذكرتم, بل فعلنا أفعالا نعرضها على الكتاب الكريم والسنة الشريفة والعقول التي ركبها الله تعالى حجة على الخلق، وجعلها وما تقدم من الأدلة آية للحق، وهو أنا نقول: شرطنا وحرمتم شروطنا فتركنا مشروطكم, فلو وفينا مع الإخلال بالشروط التي جعلناها فارقة بين عقود المسلمين وعقود غيرهم, لكنا قد نصحنا من غش المسلمين, وقرَّبنا من أبعده رب العالمين, مع أن العقود التي يجب الوفاء بها هي عقود الذمم, والعقود اللازمة في الإصلاح. فأما الولايات والإقطاعات وما يجرى مجراها فليست بعقود عند مَن عقل الصواب, وفهم مضمون ما انطوت عليه السنة ونطق به الكتاب، إذ لو كانت عقودا لما رجع النبي صلى الله عليه عنها في مجلسه وللزمت الولايات, وما كان لنبي ولا إمام أن يعزل ولا يولي غير مَن ولاه، وضرورة الدين وما علم من أمور المسلمين يقضى ببطلان ذلك.
ألا ترى أن النبي صلى الله عليه رجع عن (( إقطاع الأبيض بن جمال حبل الملح بمأرب!! حين قيل: يا رسول الله أعلمت ما أقطعته؟! قال: لا. قال: إنما أقطعته العد الذي لا ينفذ فرجع في الحال عن ذلك )).
---(1/12)
وكذلك في قصة الدهناء, ومن المعلوم الذي لا يُشك فيه أن الإنسان لو وكَّل وكيلا على عمل من الأعمال ثم عزله قبل أن يفعل الفعل أو بعد فعله, وكانت وكالته عامة أنه لا حرج عليه ولا عتب في الدين ولا في الدنيا، والوكالة ولاية، والولاية في معنى الوكالة لا فرق بينهما عندنا، وقد روينا عمن نثق به عن الإمام المنصور بالله عليه السلام أنه اتفق له ثلاثة ولاة لموضع واحد في يوم واحد في مكان واحد، وذلك جائز تبيين ذلك أن مبنى ولايات أولي الأمر على نحو ما يقضي به النظر في اعتبار الأصلح والأقوم بأعباء ما حمل, ومن الجائز أن يقع نظر المولى على واحد ثم يتجدد نظره على الأصلح منه, فيفسخ ثانيا ما فعله أولا لأجل المصلحة، أو مصادفة الموافق, وهذا نوح ألحقه الناس بباب العقود وليس منها وطعنوا به جهلا بمواقع العلم وإيثار الهوى, على ما قضى بصحته العقل والشرع.
والنوع الآخر الذي ألحقوه بالعقود وليس منها: الرقاعات التي تتضمن الصلات والهبات، وليس الأمر كما اعتقدوه, ولا حكم الله يقف على ما توهموه، لأن هذا ليس بعقد لازم، بل إن حصل ذلك فهو المطلوب، وإن لم يحصل لم يقتض تعذره فسقا ولا كفرا, ولا قلة وفاء، لأن الفاعل لذلك قد يتوهم أن هناك شيئا حاصلا وليس به، أو يتصور أن شيئا يحصل فيتعذر بعض أسبابه وصاحبه محسن، وقد قال سبحانه: { ما على المحسنين من سبيل قدمهم } لأجل ذلك ذم لمن لا يستحق الذم، وهذا عند كافة أهل الإسلام لا يسمى: عقدا، وأكثر ما في ذلك أن الفاعل لذلك والتارك للعطاء غير ممتثل للأمر، فهو العاصي دون الآمر إن كان المأمور به حاصلا.
---(1/13)
وأما العقود التي هي الذمم فنحن أكثر الناس محافظة عليها, وأعظمهم تأكيدا في تمامها على شروطها، والله تعالى قد قيد الوفاء بالشرط فقال تعالى: { فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } فشرط التمام بالمدة وهي أحد الشروط، وجعل ذلك سبحانه مشروطا بوفائهم، فالوفاء لهم لا يجب إلا بشرط الوفاء منهم، فقال تعالى في أول الآية: { إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا } فشرط في الوفاء عدم النقصان وترك المظاهرة, وهذه شروط على الحقيقة، فقد ثبت: (( أن الشرط أملك )) وأن الإخلال بالشروط في هذه العقود يرفع حكم المشروط.
---(1/14)
ونحن نوضح طرفا من أفعالكم معنا ليعلم الناس صدق مقالنا, وسلامة أحوالنا، فنقول: إنكم بعد دعوة الإمامة تربصتم بصاحبها كما علمه الخاصة والعامة، فكان أول ذلك منعكم للناس عن إجابتها, وصدكم للخلق عن سماعها، وانتهى بكم الحال في ذلك إلى خراب ديار المجيبين, وإخافة من بادر إليها باليقين، فلما غلبتكم الدهماء, وذهب عنكم جمهور العلماء, استكبرتم حينئذ الخلاف ظاهرا, وأسررتم المكائد باطنا، كما حكيناه آنفا من استدعاء سلطان اليمن والانتصار به، فلما لم يشف ذلك عليلا, ولا نقع غليلاو شمرتم عن ساق الجد في الشقاق, ونسيتم أمر الواحد الخلاق، حيث قال: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم } وقال تعالى: { يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويخركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء } الآية. فقهركم سلطان الحق، ودمغكم نصر الله لولي الأمر، فجنحتم إلى السلم, وامتطيتم مطية النفاق، وصاحبكم يؤثر التقريب على الإبعاد، وما يدنيكم إلى الصلاح ويصرفكم عن الإفساد، فكان أول الغدر وإن تقدَّمه ما وقع من آحادكم تقدَّم موسى وداود لسدادة الثغر, والإقامة بوادي ظهر، وهما على الحقيقة يضمران خلاف الأمر، فأقاما أياما ينقضان الذمم، ويحرفان الكلم، ثم نكصا على أعقابهما من غير تعريج على ثغر الإسلام، ولا التفات على أمر إمام، فكانا أحق ببيت الشاعر حيث يقول:
لحى الله قيسا قيس عيلان إنها ... أضاعت ثغور المسلمين وولت
---(1/15)