وأما قولك ـ أيدك الله ـ وقد تركت الإنكار على بعض الولاة خوفا أن لا يُقبل، فعليك ـ أبقاك الله ـ أن لا تتوانى في أمر الله عز وجل، فإن قُبِلَ فقد حصل الغرض، وإن لم يُقبل أنهيت الأمر إلى أمير البلد، فإن فعل ما طلبت من رضى الله عز وجل فقد أصاب، وإن أبا أنهيت إلينا ومنا المعونة لكافة المسلمين على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد سلطناهم على الغواة والطغاة, كانوا من الأباعد أوالولاة، وجعلنا ذلك لهم وهو من الله تعالى حكم جاري، فله الحمد كثيرا.
وأما قولك ـ أيدك الله ـ إن الصواب أن نجعل العلماء, كما قد جعلهم العلي الأعلى, حكاما على العمال إلى غير ذلك مما ذكرته من الكلام، فنحن والحمد لله تعالى أعرف الناس بحق العلماء، وأقوم الناس بأمرهم، ولا تطمئن قلوبنا إلا إليهم، ولا نثق في كثير من الأمور إلا بهم، ولا نأنس إلا بقربهم، وعليهم لنا من الحق مثل ما لهم علينا، ولهم إن شاء الله تعالى الحكم على ولاتنا وخدامنا ومن تحويه دولتنا، وعليهم الالتزام بمناصحتنا وموالاتنا، لكوننا من عترة الرسول, وذرية البتول, ودعاة الحق, والنصحاء للخلق، فلا يحل الميل عنا، ولا الغيبة لنا، ولا المعاونة لعدونا, وعدو الله علينا، ولا الملاحاة لنا في أمرنا، فإن الخصم في ذلك هو جدنا المصطفى عليه السلام، والشهود على ذلك الملائكة الكرام، والحكم العدل هو الله تعالى.
---(1/61)


وأما ما ذكرت ـ أيدك الله ـ تعالى من أخذ المعاون، وقولك: قال رسول الله صلى الله عليه وآله:(( كل المسلم على المسلم حرام دمه وعرضه وماله )) . وقوله عليه السلام: (( حرمة مال المسلم كحرمة دمه... )) إلى غير ذلك من الأقوال المحرَّمة لأمور المسلمين. فاعلم ـ أبقاك الله ـ أنا وددنا من المسلمين أن يتحرموا أموالهم بينهم ونفوسهم وأعراضهم, إلا ما أحل الله سبحانه من ذلك، ولو عمل الناس بذلك ما احتيج إلى مُقوَّم يثبت عوجهم, ويصلح أودهم، ولاستغنى الخلق عن الإمام, في أكثر الأحكام، وها نحن والحمد لله لا نقول افتخارا آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر، كافون لأيدي الناس, قامعون لضرهم، فما انتهى الخلق عن ذلك إلا بالشاق من الأعمال، ثم أقبلوا مع سعينا في صلاحهم على استهلاك أعراضنا، ونحن نعلم أنه لو لا وقاية من الله تعالى ومعونة لاستهلكوا الأرواح والأموال، وليس الخبران بجاريين - حفظك الله - على عمومهما، بل يجوز استهلاك بعض من أموال المسلمين مع إسلامهم وصلاحهم، نحو ما أوجب الله تعالى من الحقوق المعينة من الزكوات، والفطر والأخماس والكفارات، وكذلك من الحقوق التي ليست بمعيَّنة المقدار, نحو المعاون في الجهاد ونفقة الزوجات والأقارب، وأجناس ذلك, فالخبران مخصوصان بالأدلة الدالة على لزوم هذه الحقوق في المال، قال الله تعالى في المعاون في الجهاد: { وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان } , فإذا كان لا يمكن التعاون على الجهاد إلا بأخذ المال، كان أخذه واجبا بحكم الكتاب، وقال تعالى في قصة ذي القرنين وطلبه المعونة من الناس: { أعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردما أتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدقين } , ? قال انفخوا حتى إذا جعله نار قال أتوني أفرغ عليه قطرا } , فألزمهم المعونة بالحديد والصَّفر والاشتغال بالأعمال الشاقة، حتى جعل على الأرض جبلا حاجزا، وذلك لا يحصل إلا بمال كثير، وذلك يدل على أنه ---(1/62)


يجوز أخذ المعونة من قوم لدفع الضرر عنهم، وعن قوم آخرين إذا كان المدفوع هو ضرر الدين، وقال تعالى: { جاهدوا بأموالكم وأنفسكم } ووصف المؤمنين بأنهم يجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم، ولم يقل أحد أنه أراد أنهم يجاهدون بزكواتهم وأعشارهم.
والصحابة رضي الله عنهم عملت بهذه الوظيفة من المعونة، قاسمت الأنصار والمهاجرين في أموالهم ودورهم, وخيَّروهم بين القسمين، وأعطوهم الأصلح من النصيبين، وكان مع أبي بكر ثمانون ألفا أنفقها في الجهاد, وما بقي معه إلا عباة كان إذا ركب حلَّها, وإذا نزل أبعد حلالها. وعثمان جهز جيش العسرة بتسعمائة بعير وخمسين بعيرا، وتمم الألف بخمسين فرسا. كل ذلك من صميم ماله. ولما أقبل العسكر وقد مستهم الحاجة وعظمت بهم الفاقة لقاهم مائة ناقة محملة مخطومة خروها وأكلوا أحمالها, والقوم ما بذلوا هذه الأموال إلا لطاعة الرحمن، ومعرفتهم بما في القرآن.
والنبي صلى الله عليه وآله قصد إلى أن يصالح بثلث ثمار أهل المدينة على أن يسلمه إلى الكفار, بغير مراضاة أحد من الأخيار.
وقال النبي صلى الله لعيه وآله وسلم: (( اجعل مالك دون دمك, فإن تجاوز بك البلاء فاجعل مالك ودمك دون دينك )) . الدفع الذي يقع بالجهاد قد يكون الدفع عن النفوس والأموال، وهذا لا بد أن يكون المدفوع به دون المدفوع، وقد يكون الدفع عن الأديان, وهذا لا يعتبر فيه مثل هذا الشأن، لأنه ليس شيء أعلا من الدين, ولا أعظم منه عند رب العالمين، فالأخبار الواردة على مثال الخبرين اللذين ذكرهما مخصوصة بمثل هذه الأمور وأجناسها.
---(1/63)


وأما ما ذكره الشيخ الفاضل من تحريم أخذ المعونة, لأجل الهبة للمداحين، أو لأجل المجاباة أو المباهاة، فهو كما قال, ونحن إن شاء الله لا نأخذ المعونة لذلك، وما يأخذ أحد شيئا لذلك إلا وهو ظالم، وإذا وهبنا فإنا إنما نهب من صميم أموالنا، إلا ما يكون في معونة الدين, وصلاح الإسلام والمسلمين، لأنه مال مأخوذ لصلاح الإسلام والمسلمين، ونريد بالصلاح الدفع عن الدين, لا لأجل الزيادة فيه بعد كمال ما يجب منه.
وما ذكره من أنه لا يجوز أن يوهب لبعض الجند أكثر من بعض لأجل كبر منزلته، فإن كان لكبير منزلته تأثير في الدفع عن أديان المسلمين، جازت الهبة لذلك, وفعلناه تقربا إلى الله تعالى, بعلة أنه مال مأخوذ للدفع عن الدين، فجاز أن يتزايد العطاء فيه بتزايد ما به يقع الدفع, دليله ما يخرج من مال اليتيم لأجرة الأجراء القائمين عليه، فإنه يتزايد بتزايد المنفعة، وإن اشتركت الإجراء في القوة وكونهم أجراء.
وأما قولك _ أيدك الله_ وأنت في هذا موكول إلى رأيك فهو كما ذكرت، وذلك لأنه إذا ورد القرآن بوجوب المعونة وأخذها, ولم يحد فيها حدا لم يبق إلا أن ذلك راجع إلى ظنه، لأن ما لا يمكن فيه العلم يُرجع فيه إلى الظن، كنفقة الأقارب والمرضع والزوجة، فإن الحاكم إنما يرجع إلى غالب ظنه.
---(1/64)


فأما ما ذكره الشيخ الفاضل _أيده الله عز وجل_ من الخروج إلى البلاد التي يرام استفتاحها، فقد كان وقع فيه إشكال،ثم وقع في الخاطر أنه يجوز لغير الإمام, كما هو مذهب الطائفة الكثيرة من أهل البيت عليهم السلام وغيرهم، بل أجازوا ذلك مع أمراء الجور وولاة الباطل، ويدل على جواز ذلك مع المحقين ظاهر آيات القرآن نحو, قوله: { فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم } ,ونحو قوله تعالى: { وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين } ونحو قوله: { فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب } , ونحو قوله تعالى: { وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم } , وغير ذلك من عمومات القرآن في قتال الفاسقين والظالمين, من غير ذكر تخصيص بإمام دون غيره، وليس هنالك دلالة تدل على أنه لا بد من إمام.
فأما ما يذكره الإمامان الهادي والمنصور عليهما السلام من أنه لا يخرج إلى دار الحرب إلا بإمام، فيحتمل أنهما أرادا بذلك الدار الأصلية دون دار الإسلام التي يحدث فيها الكفر والارتداد، فإنه لا خلاف أنه يجوز فيها حرب الظالمين للدفع عن المسلمين، فيكف لا يجوز فيها حرب الكافرين والمرتدين؟! واليمن كله كان دار إسلام، فيجب تطهيره من الكفر الحادث, كما يجب تطهير المسجد الحرام بالإجماع من الأنجاس والنجاسات لعموم الآيات، والله الموفق للصواب.
---(1/65)

13 / 16
ع
En
A+
A-