فأما قولك ـ أيدك الله ـ وصدر الكل من المجلس والحسبة غير ثابتة، بل هي موقوفة على المراجعة، فما الحسبة ـ رحمك الله ـ تثبت بتثبيت أحد من الخلق, ولا تحتاج إلى أهل الحل والعقد، قال الله تعالى: { ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون } , فأمر تعالى عباده الصالحين بالدعاء إلى الدين, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأوجب لهم الطاعة من غير عقد، وقال تعالى: { ومن أحسن قولا ممن دعاء إلى الله وعمل صالحا وقال أنني من المسلمين } , وقال تعالى: { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم } , ولو كان إجماع الخلق شرطا في ثبوت الولاية لأولياء الأمر، لما صحت ولاية سيد المرسلين صلوات الله عليه وعلى آله الطيبين، ولا ثبتت إمامة الأئمة الهادين، لأن الخلق كلهم لا يجتمعون على ذلك أبدا، ولا يدينون به أصلا، وقد ورد بذلك نص القرآن، وحكم بأن الأكثر هم أهل العصيان، وقد شك الناس في رسول الله صلى الله صلى الله عليه وآله، فما انهدمت بذلك نبوته,ولا زالت بالشك فيه ولايته، وقضت طائفة بهلاك أمير المؤمنين, عليه سلام رب العالمين، فما صار بذلك من الهالكين، وإنما الصلاح راجع إلى موافقة رضاء الله تعالى، والفساد راجع إلى انتهاك معاصيه عز وجل، ونحن نسأل الله تعالى أن يصلح لنا سرائرنا, وأن يطهر لنا ضمائرنا، وأن يصقل قلوبنا بهدايته، وأن يشغل جوارحنا بطاعته، وأن يحول بيننا وبين معصيته, بحقه العظيم، واسمه الكريم, إنه قريب مجيب، ويصلى على محمد وآله.
---(1/51)
وأما مال ابن زيدان وما وقع فيه من الاستهلاك بالأخذ والخراب، فنحن ـ أيدك الله ـ أعلم بابن زيدان منك، فقد تحققنا منه الكفر الصريح, الذي لا تصح معه منه قربة, ولا يتقبل معه منه حسنة، وولده وأصحابه كلهم تابعون لأمره, موالون له على فعله, و ? لاتجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم... } الآية. هذا مع ما كان عليه من الظلم الظاهر، والعدوان المبين، والمكر الكبير، والفساد الذي أجمع عليه المخالف مع الموالف, ولنا أن نحكم بما علمنا, ونعمل بما عرفنا, ولا أقل أن يكون حالنا كحال الحاكم في ذلك، فالأمر إلينا والظن ظننا بحكم الله تعالى، والانقياد علينا وبأيدينا.
---(1/52)
وإذا كان كافرا مرتدا وأصحابه مثله بحكم القرآن، كان بمنزلة من لا وارث له, فمصرف ماله بيت مال المسلمين، ولنا أن نقبضه لبيت المال، ولنا أن نخرب عليه ما رأينا صلاحا من الديار والعمران، وإن كان لو ترك لكان لبيت المال، فإن عليا عليه السلام حرق مال المحتكر, وكان بقاؤه لبيت المال أصلح, وأخذ نصفا وأهلك نصفا، وكان الكل لبيت المال أربح، وعاقب بعضا بالمال، وبعضا بالإحراق، وبعضا بالقتل والطرح، وعفا تارة وأخذ أخرى، وكل ذلك شريعة النبي المصطفى, صلى الله عليه وعلى آله النجباء، وليس ذلك شيئا يختص الأئمة، ولا يجد القائل أبدا بذلك علة، ولو صح مثلا ملك ولده فلنا أن نعاقب ولده بأخذ ماله، فهوعلى مناج أبيه وخاله، وقد عاقب علي عليه السلام بأخذ المال، وورد ذلك عن النبي المختار, صلى الله عليه وعلى آله الأطهار، وإلا فاسأل هُدِيتَ عن قصة الصائد في الحرم، وهو مأثور عن سيد العرب والعجم، ومن وجد بحكم النبي على مانع الصدقة, فقد نجحا من تبعة وصدَّقه، حكم بأخذ النصف من ماله, من غير توقف في حاله، وإن شئت فقل أخذناها تضمينا، وإن شئت فعقوبة، وإن أحببت فميراثا لبيت مال المسلمين، فهذه كلها وجوه صحيحة، ووجه واحد فاسد، وهو أن يكون أخذناها ظلما وعدوانا، وأنت قد علمت أنه يجب على المسلم أن يطلب لفعل أخيه وجها حسنا ليحمله عليه, ولو كان بعيدا متعسفا، فكيف إذا كان لا يجد فيه من القبح إلا وجها واحدا؟! ويجد فيه من الحسن وجوها كبيرة؟! ومع ذلك إن بعض الخراب وبعض ما جرى في البستان لم نكن علمنا به، ولا أمرنا به، فما جرمنا فيما لم نعلم، وماذا علينا فيما لم نفعل، { ولا تزر وازرة وزر أخرى. } , ولا يجب إنكار المنكر بعد فراغه، ولا مطعن علينا في تركه.
---(1/53)
ونحن ـ حفظ الله ـ قد ابتلينا بأهل زماننا حاشى الشيخ الفاضل، فإنهم يتطلبون العثرات، ويسترون الحسنات، ويتبعون الأهواء، ويواصلون الأعداء، ويعادون الأولياء، وما أكثرهم ينكر منكرا لكونه منكرا!! ولا يهتم إلا بما يخشى على دنياه فيه ضررا، وإنهم ليطلبون علينا أمرا لو قد وقعوا على حقيقته لعرفوا أنه هلاكهم ودمارهم, وذلهم وصغارهم، فنحن الدافعون عنهم وهم اللائمون، ونحن الحماة عن دينهم وهم الخاذلون، ونحن الرافعون لمن اتضع منهم وهم لنا واضعون, وإن أعراضنا عليهم كالميتة المحرمة، فليستقل رجل من أكلها أو ليستكثر، فما هو برابح ولا ضائر لنا، وما يهلك إلا نفسه, والله له بالمرصاد.
وظني ـ رحمك الله ـ أيها الشيخ أنك أنت وكثير من أعوانك العُدد لنا, والجُنن علينا, والبطانة التي يتقى بها, ويعول عليها، فأحذرك وإياهم أن يخلف الظن فيكم، أو تخيب المخيلة عندكم، وأعينوني بنصيحة جلية من الغش، سليمة من الريب، فأنا لكم أعظم معين في دينكم ودنياكم، فلا تستصغروا أمرنا، ولا تنسوا مواقفنا, وحمايتنا على مذاهبكم وأديانكم، والله تعالى أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعا لمرضاته بحق محمد وآله.
وأما قولك إنا أخذنا مَن ضمن لنا بمال العقوبة التي على ابن زيدان، فلك العلم ولغيرك الجهل. أما علمت أن العقوبة بالمال جائز، وأن الضمانة بها صحيحة، وأن الضامن غارم، فأَين أنت عن هذه المعالم, إنك بنيت الأمر على أن الآخذ ظالم، وإنه في فعله غير سالم، ولو بنيت على أساس, لما دخل معك التباس.
وكذلك جوابنا في قولك: إني سلطتهم عليه.
---(1/54)
وأما قسمك أنك تحب خلاصنا عند الله عز وجل، فنِعْمَ ما فعلت, وأنت مجازى على ما أضمرت، ونحن نصدق قسمك, ونعرف بقديم نصيحتك، ونقسم لك بالله تعالى أنا نحب خلاصك أيضا، وخصوصا مما يتعلق منك بنا من الظنون, وقبول الأقوال وغير ذلك، وذلك بأن لا تحملنا على أقبح الوجوه، ولا تقبل فينا الكلام، ولا تتطلب العثرات، بل تفرح بما يستتر عنك منا، ولا تحمَّلنا أيضا ذنوب غيرنا من ولاتنا وخدمنا متى وقع ذلك بغير علمنا، ولا تطلب بهذا إلا خلاصك لأجل التقريع لك, ولا التوهين لأمرك, ولا السخط عليك، فأنت عندنا بالمنزلة الرفيعة, والدرجة العالية، ولا أحب إلينا من مُناصحنا في ديننا, والمعين لنا في طاعة ربنا عز وجل.
فأما قولك: إنه ما حصل لنا منهم برأ تعني الضامنين بالعقوبة, فهو خوف وحياء، فذلك مما نعتبه عليك، لأنا نعلم أنك لا تعلم باطن ضمائرهم, ولا تتحقق ما تكنه جوانحهم، ولا ينبغي لك أن تأخذ مما تحدسه وتظنه، ولا أن تعتمد على ما لا تعلمه، فبعض الظن إثم، فَحَكَّم على الجهل العلم، واستعمل الورع والحلم، فليس أحد فوق أن يؤمر بتقوى، فإن الكل عبيده وأهل خدمته، فلا حرج عليهم فيما يؤمرون به من طاعته, مع أن الحال في الضمانة ما ذكرناه أولا.
---(1/55)