ولا أنه يلتبس على مثلك ما التبس، وذلك لما نعرفه من حسن رؤيتك, وحدة نظرك, وكثرة نصيحتك ومعونتك، وقد عجبنا من أمرك!! وكيف خفي عليك ما كنا نظن أنك أعرف به من غيرك؟! حتى أدى إلى إفساد ما ذكرت من مودتك لنا ومحبتك، وقد ميزتُ بين حقك علينا وجفائك لنا، فرجح عندنا حقك, بعواطف الرعاية لمثلك، وتذكُّر قديم المعاونة منك, والمحبة التي كانت لنا لديك، فرأينا إنصافك وإتحافك، وأن نطرح المكافأة على كل جفاء, ونعمل لله تعالى بالوفاء، ولم نعتب شيئا من النصائح الجارية من المسلمين، وإنما عتبنا ما يقع من المبادرة بالقطع على غير يقين، وقد جعل الله تعالى واسطة بين أن يقطع المرء في أخيه على الإيمان، أو على الفسق والعدوان، وهي التوقف والتحري، فهو أولى من القطع على التفسيق والتبري.
والآن نجيبك فيما ذكرت, ونسامحك في كثير مما صدَّرت، ولسنا ممن إذا قيل له: اتق الله أخذته العزة بالإثم، ولكنا نجيب أهل الفضل والعلم، ونتردى برداء الكرم والحلم.
---(1/46)
أما ما ذكرته ـ أيدك الله ـ من حوادث نجران، وما جرى فيها من قتل الأسير, والإجهاز على الجريح، والقتل على الذمة، فلسنا نعتذر في قتل الأسير والإجهاز على الجريح، فإن ذلك هو حكم الكتاب والسنة، وبمثل ذلك يُتقرب إلى الله قال تعالى: { فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله } وما قتلنا أسيرا قد فاء إلى أمر الله عز وجل ولا رجع إلى طاعته، ولا قتلنا إلا من له فئة يرجع إليها، ولا كان أحد من أولئك الأعراب الجفاة براجع إلى ذلك ولا معتمد عليه, ولا قاتلونا على بصيرة, ولا قاتل أكثرهم على شبهة لَحِقَتْه، وإنما قاتلوا على الجهل والحمية حمية الجاهلية، والتصميم على الظلم الظاهر، فبينهم وبين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله تفرقة ظاهرة, إن كان أشكل عليك ترك عليّ عليه السلام لبعض أسرى أهل البغي، ومسامحته له في القتل، وقد أمر علي عليه السلام بقتل ابن اليثربي بعد أن أسره عمار رضي الله عنه، وما قتله بقصاص، لأن ولي القصاص غيره عليه السلام، وغيره قاتله، وإنما قتله لمجرد بغيه، فقال بعض العلماء ذلك لأن الفئة كانت باقية، والحرب قائمة, ونحن فعلنا كمثل ذلك، فإن حربهم ما كانت بمنقضية لو قدروا على أمر من الأمور، وأيضا فإنا ما قتلنا إلا من خشينا منه الفساد والمكر، وقتلُ المفسد جائز بحكم الكتاب، قال تعالى: { لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين إينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقيلا } وقد نص الإمام صلوات الله عليه على جواز قتل المفسد لغير الإمام، وكذلك حكم السيد أبو طالب عليه السلام, والقوم الذين لقيناهم في تلك الحرب هم كانوا من شياطين الإنس, وفراعنة العرب, ودهاة القبائل, من خولان ومذحج وهمدان، وكان مكرهم شديدا, وفسادهم عظيما، ولو استولوا على الأمر في تلك الفتنة لأهلكوا الحرث والنسل، ولا يعرف هذا إلا من له خبرة ---(1/47)
بهذا الأمر، والتدفيف على الجريح هو فعل علي عليه السلام في مولى بني أمية وغيره، وآيات القرآن الكريم عمت بالقتل ولم تخص أسيرا ولا جريحا, ولولا ورود التخصيصات في بعض المواضع لكانت على العموم، ولنا أن نفعل ما فعله الإمام السابق, إلا ما خصه الدلالة, من إقامة الحدود، وصلاة الجمعة، وأخذ الزكاة كرها, لأجل عمومات القرءان، وتحريم التخصيصات إلا فيما ذكرنا، والظن ظننا لا ظن غيرنا، وإلا فما الفائدة في انتصابنا متى حكمنا عن غيرنا؟!
ولو قتلنا من جاز قتله في الظاهر, وإن كان بخلاف ذلك في الباطن، فالعوض فيه له على الله عز وجل، لأنا فعلناه بأمره, وقد عم الله تعالى في العتاب في الأمم الماضية الصغار مع الكبار, ولا ذنب، ولكنه تعالى تحمَّل بالعوض لهم, وفي شريعتنا أمر الله بأخذ الصغار, وتملُّكهم ولا ذنب لهم، وأمر بإقامة الحد على التائب ولا ذنب له، وهذه أمور شرعية يجب الإنقياد لها, وإن لم يظهر وجه الحكمة فيها, لكونها واردة من حكيم لا يتهم في حكمه, ولا يُستخان في شيء من أمره، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وآله الفداء من عمه العباس، وإن كان خرج مكرَها، وقال: (( ظاهرك مع القوم )). وأجرى أحكام المسلمين كلها على المنافقين الذين يعلم نفاقهم بإعلام الله تعالى له، ذلك لما أظهروا الإيمان, والأخذ بالظاهر ـ رحمك الله ـ هو الواجب في الإسلام والشريعة الشريفة حماها الله عز وجل.
ومن هاهنا يجب على مَن علم بظاهر أمرنا,وهو الدعاء إلى الله تعالى وإظهار القصد الصالح ,أن لا يجري علينا إلا أحكام الظاهر, ولا يتعسف بحكم الباطن، وتَعَرُّف ما لا يُعلم، فإن ذلك هو طريق النجاة لمن طلبها.
فأما القتل على الذمة، فما قتلنا أحدا أبدا، ولا علمنا ذلك من أحد من جندنا، ولا من أحد من أخدامنا، ونحن نبرأ إلى الله تعالى وإلى عباده من أن نفعل ذلك, أو ندين به أو نضمره أو نأمر به، ولا يفعل ذلك إلا مارق عن الدين، مائل عن الشريعة الشريفة.
---(1/48)
فإن ُقتل أحد ولا نعلم ذلك بغير أن يعلم بالذمة، فعلى المدعي لذلك البينة، وعلى بيت المال ضمان ذلك، ولا يضيع الله تعالى على أيدينا حقا من الحقوق، ولا يلزمنا ما ينسب إلينا, ويُتجنى علينا, ولا يحل لمسلم أن يعتقد ذلك فينا، وكيف يعتقده ونحن نبرأ إلى الله منه؟!
وعليك البحث وعلينا الإنفاذ للأحكام الشرعية، وليس لك أن تصدق بكل ما تسمع فينا، ولا أن تجعل الأصل جنايتنا وعصياننا، بل تجعل الأصل ما جعله الله عز وجل وهو الإسلام في دار الإسلام، ودع عنك التعسف وقبول كل كلام، فإذا تحققت المعصية فعليك الإنكار بالتلطف والكلام اللين، قال تعالى لموسى وهارون وهما أفضل أهل زمانهما, حين أرسلهما إلى أخبث أهل زمانه، وأهل كل زمان: { فقولا له قولا لينا } , وقد علم تعالى أنه لا يقبل اللين ولا القاسي، وإنما ذلك للإعذار والتلطف في الأمر كله، والتأديب لعباده، ولا تطلب بهذه النصيحة إلا ما يختصك لنجاتك وخلاصك, بينك وبين الله عز وجل لا لأمر يرجع إلينا، فما ذلك بضآرٍ لنا, ولا مخل علينا، نحن لا نعتصم إلا بالله، ولا نرجع إلا إليه، ولا نعتمد إلا عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ولو أعاننا الناس بنفوسهم, لسهلت علينا الأمور وعليهم، ولسلموا من الذنوب، ولكنهم أطاعوا الهوى وأساءوا الظنون، وتحملوا من الأمر ما لم يأمر به الله عز وجل, مع سماعهم لقوله تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن أثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعض أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه } , فالله تعالى نهى عن ظن السوء, وزجر عن الغيبة وشبَّهها بالميتة.
---(1/49)
وقد علمت رحمك الله أن آكلها فاسق، ومستحلها كافر، فينبغي أن يكون التحري في الإقدام على الظنون والأوهام، والاغتياب أعظم من التجري والتشكك في الترك، فالخطأ في الترك أخف من الخطأ في الفعل في الأكثر، فليس لك رحمك الله أن تأخذ بقول مغتاب عتاب، قد خلص إلى حزب الشيطان، وخرج من حزب الرحمن، يقول بما لا يعلم, ويعتمد على ما يجهل، حتى قال فلان عقد وأرذم, ونقض العهد والذمم، فإن الأمر عظيم, والخطر في ذلك جسيم. قال علي عليه السلام: (( أيها الناس من عرف من أخيه وثيقة دين, وسداد طريق، فلا يسمعن فيه أقاويل الناس، أما أنه قد يرمي الرامي وتخطئ السهام )).
واعلم أيدك الله أنه لا يحل لمسلم أن يرمي مسلما بأنه نقض العهود والذمم, من غير أن يتحقق ولا يعلم، ولقد كان ينبغي لو علم ذلك وتحققه, أن يستر على أخيه ويرحمه, ويحمد الله تعالى على معافاته من مثل ذنبه، ويشكره عز وجل على ستره عليه في ذنوبه، وأنه كتم عليه تعالى ما كان يكره أن يظهر على غيره، فما من أحد إلا وله ذنب، فكيف يعيب أخاه بذنب لم يتحققه, وينسى ستر الله عز وجل عليه في ذنوبه، فلا يلحقنا غم ولا حزن والحمد لله إلا مخافة أن تُهلك الأمة أنفسها فينا بظنون السوء، وقبول الغيبة والكذب, مع طلبنا لصلاحها, وتحرينا بجهدنا لسدادها، فنسأل الله تعالى أن يعظم لنا الأجر، ويحملنا على مطايا الصبر, حتى لا نهلك فيمن هلك, ولا نعطب فيمن عطب.
---(1/50)