[و] الضرب الرابع: يستعمله كل أحدٍ إذا سئل عن أمر لم فعله؟ أو لم لم يفعله؟ فيقول: لأجل كذا صدقاً كان أو كذباً، وشاهد ذلك قول الشاعر:
وكنتُ إذا ما جئتُ جئتُ بعلّةٍ .... فأفنيتُ علاّتي فكيفَ أقولُ؟
والضرب الخامس: يستعمله كل مدلس؛ إما عمداً وإما جهلاً، نحو علل الفلاسفة التي أضافوا إليها التأثير في أصول العالم وفروعه، وكذلك علل المشبهة التي أثبتوا التشبيه لأجلها، وكذلك علل المعتزلة والأشعرية التي أثبتوا لها أحكاماً خارجة عن حد العقل نحو إثبات المعتزلة لأحكام ليست بشيء ولا لا شيء، وإثبات الأشعرية لإرادة أزليّة، وكلام قديم ورؤية غير معقولة.
[الكلام في الفرق بين الحقائق الصحيحة والباطلة]
وأما الكلام في الفرق بين الحقائق الصحيحة والباطلة: فهو يتفرع إلى ذكر حقيقة الحقيقة، وكيفية التحقيق، وكيفية السؤال عنه، وذكر جملة من أمثلة الحقائق المنطقية التي تصح في اللفظ والمعنى، أو في اللفظ دون المعنى، أو في المعنى دون اللفظ، أو لا تصح [لا] في اللفظ ولا في المعنى.
[ذكر حقيقة الحقيقة وكيفية التحقيق]
أما حقيقة الحقيقة: فإن أريد بها اللفظ قيل: هو كل لفظ جلي يكشف عن معنى لفظ خفي، وإن أريد بها المعنى فمعنى لفظ الحقيقة: هو ذات المحقَّق، وذات كل شيء هي هو.
وأما كيفية التحقيق: فالحقائق على ضربين: عرفية عامة لا اختلاف فيها.(1/41)


وكيفيتها: هي أن يذكر السائل بعض أوصاف المسؤول عنه التي يحصل له بذكرها معرفة ما سأل عنه، نحو أن يقول مثلاً: ما هو الجسم؟ فيجاب بأنه: ما يصح أن يُرى، أو ما يشغل الجهة عن غيره، أو ما تحويه الجهات الست، أو ما يحله العرض، أو ما له طول وعرض وعمق.
والثانية: اصطلاحية مبتدعة خاصة مختلف في صحتها؛ لأجل كونها مما يقع فيها وبها الغلط والإستغلاط، وكيفيتها: أن يوصف الاسم الذي هو جنس متنوع بوصفين: أحدهما عام له ولغيره من أجناسه المشاركة له في ذلك الوصف العام.
والثاني: خاص له دون غيره ليكون فاصلاً له من غيره بعد الإشتراك، قالوا: ومما يدل على صحة هذا الحد هو كونه من جنس وفصل، ويجمع ويمنع، ويطرد وينعكس، ومثال ذلك: تحديدهم للخمر بأنه كل شراب مسكر؛ فالوصف الجامع للجنس هو قولهم: شراب؛ لأن جميع أنواع المشروبات مشتركة فيه، والوصف الخاص الذي يفصله من سائر المشروبات هو قولهم: مسكر، وعكس هذه الحقيقة هو أن يقال: وكل شراب مسكر فهو خمر؛ فتأمل طول هذا الشرح الذي ادعت الفلاسفة، ومن حذا حذوهم من المعتزلة أنه يدل على صحة الحد، وأن صحة الحد تدل على صحة المحدود، وهذا تدليس ظاهر لمن تأمله؛ لأنه ما من بدعة مستحيلة إلا ويمكن أن يصح لها حد جامع لهذه الشروط.(1/42)


مثاله: النور الذي يعبده المجوس؛ فإنه يمكنهم أن يقولوا: هو كل إله يفعل الخير، فقولهم الإله وصف جامع له وللظلْمة، وقولهم: يفعل الخير وصف خاص يفصله منها، وعكسه أن يقال: وكل إله يفعل الخير فهو نور – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً -.
[ذكر كيفية السؤال عن الحقيقة وجملة من أمثلة الحقائق المبتدعة والاصطلاحية]
وأما كيفية السؤال عن الحقيقة، والجواب عنه:
أما السؤال: فهو يقع بألفاظٍ مختلفة، ومعانيها متقاربة، وهو أن يقال: ما هو؟ أو ما حقيقته؟ أو ما حده؟ أو ما معناه؟ أو ما تفسيره؟
وأما الجواب: فنحو ما تقدم [مثاله] في العرفية والصيغة الاصطلاحية.
وأما الذكر لجملة من أمثلة الحقائق المبتدعة الاصطلاحية:
فمثال ما يصح في اللفظ والمعنى: تحقيقهم للخمر بما تقدم ذكره.
ومثال ما يصح في اللفظ دون المعنى: تحقيق المعتزلة للمعدوم بأنه المعلوم الذي ليس بموجود، وذلك لأن ذات المعدوم عندهم ثابتة فيما لم يزل لأجل كونه معلوماً فاللفظ صحيح والمعنى باطل.
ومثال ما يصح في المعنى دون اللفظ تحقيقهم أيضاً للجسم بأنه الجواهر المؤتلفة طولاً وعرضاً وعمقاً، أما صحة المعنى فلأن الجسم هو كل ما له طول وعرض وعمق.(1/43)


وأما كون اللفظ غير صحيح فلأجل ذكرهم للجواهر التي يزعمون أنها ثابتة فيما لم يزل، وأن الجسم إذا فني عاد جواهراً، وأن الجوهر جزء لا يتجزأ، وأنه ليس له إلا حد واحد يلاقي به ما جاوره، وأن الجواهر إذا ائتلفت طولاً فهي خط، وإذا ائتلفت طولاً وعرضاً فهي سطح، [وإذا ائتلفت طولاً وعرضاً وعمقاً فهي جسم] وكل هذه الأقوال باطلة، وأسماء مخترصة لغير مسمى.
ومما يدل على ذلك على سبيل الإختصار: تناقض قولين من أقوالهم في الجوهر؛ أحدهما: قولهم إن الجوهر ليس له إلا حد [واحد]، ونقيض ذلك قولهم: إنه يشغل الجهة، وشغل الجهة لا يعقل إلا إذا كانت الجهة محيطة بجوانب ما شغلها، وكل ما أحاطت الجهة بجوانبه وجب أن يكون له ستة حدود وهي: الأمام والخلف واليمين والشمال والفوق والتحت.
والقول الثاني: هو ما زعموا من أن الجواهر تأتلف طولاً وذلك مما ينقض قولهم: إنه ليس للجوهر إلا حد واحد، إذ لا يصح ولا يعقل ائتلاف ثلاثة جواهر طولاً إلا إذا كان أحدها متوسطاً بين اثنين، وتوسطه لا يصح، ولا يعقل إلا إذا كان محاداً لهما بحدّين، كل ذلك معلوم بيقين لكل من تأمّله بعقل صحيح.(1/44)


ومثال ما لا يصح في اللفظ ولا في المعنى: هو تحقيقهم أيضاً للذات بأنه ما يصح العلم به على انفراده، وذلك لأنه يستحيل عندهم خلو الذات وانفرادها عن صفتها الأخص التي زعموا أنها لا شيء ولا لا شيء، والإستحالة نقيض الصحة؛ لأنه لا يجتمع، ولا يجوز القول بأنه يصح انفراد الذات عما يستحيل انفرادها عنه؛ فتأمل ذلك وما أشبهه من حقائقهم التي ليست شيئاً سوى لفظ الدعوى صحيحةً كانت أو باطلةً.
وكل ما كان كذلك فهو موضوع، وأصل للتغرير والتلبيس، وتسميته علماً ودليلاً تدليس وتمويه على من يوهمونه أنهم بلغوا في تدقيق النظر وفي معرفة علم التوحيد إلى حيث ما لم يبلغ أئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام -.
[الكلام في الفرق بين حد العقل والغلو]
وأما الكلام في الفرق بين حد العقل والغلو: فاعلم أن العقل من جملة الفضائل التي جعل الله سبحانه لكل واحدة منها منزلة محمودة متوسطة بين طريقين مذمومين نحو السخاء المحمود المتوسط بين التقتير والتبذير، والعدل المتوسط بين الإهمال والجور.
وكذلك العقل فإنه متوسط بين التفريط والإفراط، ومَثَلُه في هدايته للعلم المتوسط بين الجهل والغلو كمَثَل من يسير بمن اتبعه في طريق معلوم لغرض مفهوم إلى حد مقصود.
والغلو: هو المروق والتعدي لحد العقل إلىالطريق المذموم، وهو الإفراط، ومَثَلُه في الإضلال كمَثَل من يسير بمن اتبعه في غير طريق لا لغرض ولا إلى حد، وهو ثلاثة أضرب:(1/45)

9 / 94
ع
En
A+
A-