فقالت: إنا من أجلك عصينا، ومن قبلك أبينا ألا إن رجالنا قالوا: لا نسلم صدقات أموالنا ولا طاعات نفوسنا إلا لمن نصبه رسول الله –صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فينا وفيكم؛ فقال علي –عَلَيْه السَّلام-: إن أمركم غير خاف عن الله تعالى وإنه لموفي كل نفس بما كسبت.
ثم قال: يا حنفية حملت بك أمك في زمان قحط، وقد منعت السماء قطرها، والأرض نباتها وغارت العيون، وتعذرت على البهائم المراعي، وكانت تقول عنك إنك حمل مشؤوم في زمان غير مبارك فلما كان بعد تسعة أشهر رأت في نومها كأنك قد وضعتك وكأنها تقول لك: إنك ولد مشؤوم في زمان غير مبارك وكأنك تقولين لها: لا تتشاءمي بي فإني ولد مبارك أنشأ منشأً مباركاً حسناً يملكني سيد ويولدني ولداً يكون لحنيفة فخراً.
فقالت: صدقتَ يا علي، أنّى لك هذا. قال: هو إخبار عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-. قالت: فما العلامة بيني وبين أمي ؟ قال: إنها لما وضعتك كتبت كلامك والرؤيا في لوح من نحاس وأودعته قمة الباب فلما كان بعد عشرين سنة جمعت بينك وبين اللوح فقالت: يا بنيه إذا نزل بساحتكم من يسفك دماءكم ويسبي ذراريكم وتُسبين فيمن سبي فخذي هذا اللوح واجتهدي أن لا يملكك إلا من يخبرك بالرؤيا وهذا اللوح.
فقالت: صدقت؛ فأين اللوح ؟
فقال: في عقصتك.(1/441)


فأخرج اللوح من عقصتها بين الناس وتملكها يا أبا جعفر دون غيره بما ظهر من حجته، ونادى ببينته ثم إنه عقد عليها عقدة النكاح ووطئها بالعقد لا بملك اليمين.
تم ذلك والحمد لله رب العالمين وصل اللهم على سيدنا محمد الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين وسلم يا كريم، آمين.(1/442)


يتلوه سؤال وجواب من كلامه -رضي الله عنه وأرضاه-
يسأل الذين قدّموا أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- وقالوا بإمامته وإنه الخليفة من غير فصل لمَ يرضون على من تقدمه فيقال لهم ما تقولون فيمن تقدم على الإمام المحق ومنعه من التصرف في رعيته ؟ ولا بد أن يكون فاسقاً عند كافة العلماء أعني من تقدم على الإمام المحق.
فإذا قيل: إن أبا بكر وعمر لهما سوابق يمكن أن تكون هذه مكفرة في جنبها فلا نقطع على التفسيق.
قلنا: فما عذرك في الترضية مع حصول المعصية التي قلت لو كانت من غيرهما لكانت فسقاً.
فإن قال: إن المعلوم إيمانهما فلا يخرج عن المعلوم للتجويز، ولأن الله تعالى قد رضي عنهما في كتابه فقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:18].(1/443)


قلنا: كيف يصح بقاء الإيمان معلوماً مع حصول المعصية التي قلنا إنها تكون فسقاً من غيرهم وفي حقهم تحتمل الفسق وتحتمل أن تكون مكفرة فقد قطعت على المعصية وتوقفك ليس إلا في كونها كبيرة أو غير كبيرة على أنه يمكن أن يقال إذا ثبت أن مثل فعلهما لو فعله غيرهما كان فسقاً فكيف يصح أن يقال فيه إنه يجوز كونه مكفراً في جنب طاعتهما، وقد قلنا إن الكبيرة محبطة للثواب، وقلنا إن من فعل معصية كبيرة لا تكون مُسْقَطة بثوابه ما لم يتب، وإن بقي عمر نوح ؛ فكيف يصح أن تخرج الكبيرة عن كونها كبيرة بالإضافة إلى كثرة الثواب مع هذا، وهذا مناقضة ظاهرة.
فأما قوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح:18]. فالجواب: أن ذلك إخبار عن الحال أنه تعالى راض عنهم ببيعتهم لرسوله إذ لا يمكن أن يقول لقد رضي الله عنهم في كل حال إذ قد فسق بعضهم بالإجماع منا ومن المعتزلة كطلحة والزبير وغيرهما وإذا ثبت أنه إخبار عن الحال في تلك الحال، قلنا: إنهم وإن كانوا كذلك فقد خرجوا عنه بتقدّمهم على مولاهم، وظلم بنت نبيهم، وقد قال -صلى الله عليه وآله-: ((فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها ويؤذيني ما يؤذيها)) وقال -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((إن الله يغضب لغضبك يا فاطمة ويرضى لرضاك)).(1/444)


ولا خلاف بين آبائنا أنها ماتت وهي غضبانة عليهم، وكلامها يشهد بذلك، وهو الذي ذكرتْه في جوابها لنساء المهاجرين والأنصار حين قلن: كيف أصبحت يا بنت رسول الله ؟ في مرض موتها ؛ فقالت: أصبحتُ والله عائفة لدنياكم، قالية لرجالكم، شنيتهم بعد أن سبرتهم، ولفظتهم بعد أن عجمتهم، فقبحاً لفلول الحد، وخور القناة، وخطل الرأي، وبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون، ويحهم لقد زحزحوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة، ومهبط الروح الأمين، والطيبين لأهل الدنيا والدين، ألا ذلك هو الخسران المبين، وما نقموا من أبي حسن نقموا والله نكير سيفه، ونكال وقعته، وشدة وطأته، وتنمره في ذات الله، والله لو تكافوا على زمام نبذه إليه رسول الله –صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- لاعتقله ولسار بهم سيراً سجحاً لا تنكلم خشاشته، ولا يتعتع راكبه، ولأوردهم مورداً نميراً تمير ضفتاه ولأصدر[هم] بطاناً قد تحبرهم الري غير متحلي منه بطائل إلا بغمرة الناهز وردعه سورة الساغب ولفتحت عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا وسيعذبهم الله بما كانوا يكسبون ألا هلمن فاسمعن وما عشتن أراكن الدهر عجباً، إلى أي ركن لجأوا، وبأي عروة تمسكوا، ولبئس المولى ولبئس العشير وبئس للظالمين بدلاً، استبدلوا والله الذنابا بالقوادم والعجز بالكاهل وبعداً وسحقاً لقوم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون.(1/445)

89 / 94
ع
En
A+
A-