إن كان قصد بذلك السلام على الأمير، فلم لم يعينه بلفظ شهير؟، وإن كان قصد به جميع العترة؛ فقد دخل فيه كل من يكره، وإن أضمر أنه قصد به بعض الغابرين، فذلك دليل على بغضه لكل الحاضرين، وإن صح ما حكاه عن جبريل، فما حكم من يفضل المعتزلة على الأئمة بغير دليل؟
وقوله:
أتانا حديثٌ أنكرته قلوبنا.... وأسماعنا مجته لما يلج نقرا
هل يحسن لمن زعم أنه لا يبارى في العلم، ولا يجارى في دقة النظر والفهم، أن يعبر بالنقر عن الأسماع، وأن يحكي إنكار قلبه لما يعلمه من جهة السماع؟!
وقوله:
وإلا فقل لي لا مساس ونادني.... يجبك شبيب تحته سبحة شقرا
هل يجوز أن يتشبه أحد من الأمة بالسامريين؟ إلا من أشبه رفضه هارون من رفضه علي أمير المؤمنين، وهل يحسن أن يتشبه في العلم بشبيب، فدم لا يحسن أن يسأل أو يجيب؟
وقوله:
ثلاثون ألفاً كان تحت لوائه.... من اشياع زيد صار عسكره صفرا
هل يجوز في هذا البيت أن يوجد كان، أو أن يجعل العسكر كظرف المكان؟
وقوله:
وتاب فلم تُقْبل له قط توبة.... فأسبل دمعاً بعدنا يشبه القطرا
هل يجوز أن يفتخر بترك قبول التوبة أحد من المسلمين، أو يوهم أنه كان مشاهداً لوقعات المتقدمين؟
وقوله:
ولولا أخو همدان جارت على الورى.... أساطيره اللاتي سطرن به سطراً
هلا بين أخو همدان لقبه، وعين للناس نسبه، فيبين لعارفيه، أنه الذي قال الإمام فيه:
حفاظ أكارم عافوا الدنايا.... وخافوا قول حاسدهم أضيعا(1/416)
وسبب ذلك أن أخا همدان نظم شعراً هجا به الأمراء الحمزيين، وذكر فيه أنهم ضيعوا حي الأمير مجدالدين، فأمر الإمام -عَلَيْه السَّلام- بأن يعارض شعره، وكان مما عارضه به ما تقدم ذكره، فانظر كيف جعله من جملة الحاسدين، فضلاً عن أن يكون من العلماء المجاهدين.
وأما قوله عقيب ذلك:
ولكنه قد قام لله جاهداً.... ولم يبتغ إذ قام من أحد أجرا
فأين بلغ باجتهاده، وهل هو إنفاقه أو جلاده، فأما افتخاره بالمبالغة في السباب، فليس ذلك من شيم ذوي الحلوم والآداب.
وأما مسائله:
فالأولى: ما يرى الناقل عنا ما لم نقل في حقيقة الإمام هل هو الشخص الجامع للرئاسة على الخلق في الدين والدنيا على وجه لا يكون فوق يده يد؛ كما قالته أئمتنا -عَلَيْهم السَّلام- فعندنا أن أمير المؤمنين وولديه أئمةٌ من وقت أن نص لهم رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- ومع ذلك فوق أيديهم يد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- فإما أن تنقض حقيقة أصحابنا أو تأتينا بحقيقة أخرى أو تخرق الإجماع بأن يد رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- ليست فوق أيديهم.
الجواب: أما قوله إنه نقل عنه ما لم يقله، فإن صح قوله إنه نقل عنه لم يصح قوله إنه لم يقله، وإن صح قوله إنه لم يقله لم يصح قوله إنه نقل عنه، ومولانا الأمير -خلد الله سلطانه وشيد في ذرى المجد بنيانه- أعلم بالناقل إليه، وما يجب للمدعي وعليه.(1/417)
وأما تخييره لي بين نقض الحقيقة التي زعم مرة أنها لأئمته، ومرة أنها لأصحابه، وبين خرق الإجماع بأن يد رسول الله فوق يد علي وولديه، وبين الإتيان بحقيقة أخرى.
فأما نقض حقيقة أصحابه لئلا يخرق الإجماع؛ فلو أنها كانت مثلاً من الكتاب لوجب القطع على أنها متأولة محمولة على خلاف ما أفاد ظاهرها من تفسير الخاص بالعام، وإلزام خرق الإجماع بأن يد النبي ليست فوق يد الإمام، ولو كانت من الأخبار المروية عن النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- ولم تحتمل التأويل لوجب القطع على أنها مكذوبة عليه.
وكذلك لو كانت من كلام بعض أئمة آل محمد مع أن تحديد المسائل الدينية بالحدود المنطقية مذهب حادث، وأصله للفلاسفة ثم تدرج إلى المعتزلة ثم استحسنه بعض الشيعة الجامعين بين التشيع والاعتزال.
وعلى الجملة فإن ألفاظ الحد ليست بأكثر من ألفاظ الدعوى، وصحة الحد مشروطة بصحة الدعوى، وذلك لأن التحديد بالحدود المنطقية صناعة مستنبطة، فمن عرف تلك الصنعة أمكنه أن يحقق دعواه صحيحة كانت تلك الدعوى أو باطلة، ولذلك وقع الاختلاف في الحدود على حسب الاختلاف في المحدود، وذلك ظاهر لمن تأمله بعد معرفته له.
وأما إلزامه لي أن آتي بحقيقة أخرى؛ فليس يجب عليّ بعد معرفتي لشروط الإمامة، وصفة الإمام؛ أن أحققه بحقيقة أهل علم المنطق إلا أن يدعي وجوب ذلك فعليه البيان، وعليّ القبول إن شاء الله تعالى.(1/418)
والثانية: قوله: ما يرى الناقل عنا ما لم نقل في قول الزيدية: إنه لا طريق للإمامة إلا الدعوة فإن بها يصير الإمام إماماً فيمن قال لا يجوز أن يصير إماماً بدعوته لأنه لم يرد في الشرع لأن ولايات المرء الحاصلة على وجهين، ولاية تحصل له من جهة النسب كولاية النكاح للابن والأب وكذا التصرف في المال، وولاية تحصل بعقد الغير له كولاية الإمام لواليه وقاضيه وكلاهما من غيره فلا يجوز أن يكتسب الإنسان لنفسه بنفسه ولاية.
والجواب عن ذلك: أما حكايته عن الزيدية أنهم يقولون: لا طريق للإمامة إلا الدعوة فذلك قول من لا يعرف كل الزيدية، والصحيح عند الزيدية المحققين أن من الأئمة من طريق معرفة إمامته النص [وهم علي (عَلَيْه السَّلام) وابناه -عليهما السلام- ومنهم من طريق إمامته على الجملة النص] على المنصب وصفة السبق وتكامل الشروط فمن بلغ هذه الدرجة من الأئمة فهو مستحق للإمامة وطاعته وسؤاله عن كل مشكل في الدين واجب قبل الدعوة وبعدها لقول الله سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ..} الآية [النحل:43] ، وأَمْرِه بطاعة أولي الأمر.
فأما الدعوة فإنما تكون طريقاً إلى معرفة الإمام لمن انتزح عنه ولم يعرفه، وتكون طريقاً إلى وجوب الهجرة والنصرة.(1/419)
ومما يبين ذلك: أن الإمام لو لم يكن إماماً إلا بالدعوة، ولم تجز له الدعوة حتى يكون إماماً؛ لوقفت إمامته على دعوته ودعوته على إمامته، ولأنه يجب على المؤمنين طلب الإمام ولا يجب على الإمام طلب المؤمنين، ولا الدعوة إلا بعد أن يجتمع معه من المؤمنين المحقين من يجب الجهاد بمثلهم، وبذلك عرف الفرق بين دعوة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- ودعوة الإمام.
وأما حكايته لقول من قال إنه لا يجوز أن يكسب الإنسان لنفسه بنفسه ولاية؛ فليس ذلك بمستمر على الإطلاق؛ لأن المحتسب قد تحصل له الولاية باختياره لا من جهة غيره، ولا يبطل ذلك بنصب الخمسة له ؛ لأن أصله كما قال المنصور بالله –عَلَيْه السَّلام-: فعل أهل السقيفة، وليس بحجة.
والثالثة: قوله من مذهب الزيدية –أعزهم الله- إجماعاً أن الإمام يجب أن يكون واحداً والناصر –عَلَيْه السَّلام- قد قام في وقت فيه قبله على الناس إمام فإما أن يخرج عن إجماع الزيدية أو يكون دعاؤه إلى غيره وهو باطل.
الجواب: أن دعواه لإجماع الزيدية غير صحيحة؛ لأنه قد نقض ذلك بما حكاه عنهم في المسألة الأولى وهو قوله: إن علياً وابنيه عندهم أئمة من وقت أن نص لهم رسول الله –صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وكذلك ما حكاه من قيام الناصر في وقت قيام الهادي، وهما من أئمة الزيدية، ولم يخرقا الإجماع وكيف يعتد بإجماع من ليس من أهله؟(1/420)