[ذكر من ابتدع الهيولى والصورة وتفسيرهما ومثالهما والغرض بهما]
أما من ابتدعهما: فهم الفلاسفة الذين زعموا أن علمهم إلاهي، وأن أدلتهم براهين باهرة، وأن ألفاظهم منطقية مهذبة.
[و]أما تفسيرهما: فلا فرق بينهما في المعنى، وبين الأصل والفرع، والجنس والنوع.
وأما مثالهما: فمما ضربوه لهما مثلاً الحديد وما يعمل منه من الآلات المختلفة الصور، والأسماء نحو السيف والسكين والمنشار، وما أشبه ذلك؛ فزعموا أن الهيولى هو الحديد، وأن الصورة هي هيئة ما يُعمل من الحديد كانت كامنة فيه قبل ظهورها.
قالوا: وكذلك صورة الحديد كانت كامنة في المعدن، وكذلك هيولى المعدن حتى ينتهوا إلى علة العلل التي زعموا أن صور جميع الأشياء الحادثة كانت كامنة فيها، وموجودة فيها بالقوة، قالوا: وكذلك القول في جميع صور الحيوانات والنباتات.
وأما ذكر غرضهم الذي قصدوه: فهو جعلهم لذلك مقدمة للقياس، وشبكة يصيدون بها الأغمار كغيرها من المقدمات التي يستحوذون بها على عقل المتعلم، حتى لا يخطر بباله شك في صحتها، [و] في أن نظره فيها، واستدلاله بها؛ يدله على صحة القول بالعلل المؤثرة، وبطلان القول بالصانع المختار عقلاً بزعمه لا تقليداً، ولم يشعر بكونه مقلداً في قبوله لتلك المقدمة من غير نظر في صحتها، وصحة ما تؤدي إليه من المحالات الخارجة عن حد العقل.(1/36)
[ذكر جملة مما يدل على بطلان القول بالهيولى والصورة]
وأما الذكر لجملة مما يدل على بطلان القول بذلك: فمما يدل عليه هو كونه دعوى مبتدعة لفظاً ومعنى بغير دليل، ومع ذلك فإن الصورة لا يعقل كونها صورة إلا إذا كانت فعلاً لمصور، كما أن الصور التي تعمل من الحديد لا يصح كونها صوراً إلا بمصور صورها، وكذلك كل صورة معمولة في الشاهد لا بد لها من فاعل مختار؛ فكذلك يجب أن يكون لكل صورة من صور العالم فاعلاً مختاراً.
ولأن كل عاقل غير مكابر لعقله يعلم ضرورة أنه يستحيل كمون جملة الإنسان، بما فيه من أنواع الأجسام المختلفة، والأعراض المتضادة، وبما فيه من حياة وقدرة وسمع وبصر ونحو ذلك في نطفة قليلة ضعيفة ميتة.
وكذلك يعلم أيضاً من طريق الإستدلال العقلي أن كل ما في الإنسان من أثر الصنع العجيب يدل على أن له صانعاً حياً قادراً عالماً، هذا مع ما ورد به نص الكتاب من الآيات الدالة لكل عاقل على صحة ما دل عليه العقل نحو قول الله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ(6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ(7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ(8)} [الانفطار]، وقوله: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ} [آل عمران:6]، وما أشبه ذلك مما هو على الحقيقة علم إلاهي، وبراهين واضحة، خلافاً لما ادعته الفلاسفة من المحال، وزخرفته من الأقوال.(1/37)
[الكلام في الفرق بين صفات القديم والمحدث]
وأما الكلام في الفرق بين صفات القديم والمحدث: فالقديم الأزلي هو نقيض المحدث في اللفظ والمعنى، ولا واسطة بينهما ولا مماثلة، ولا مشاركة.
فأما عموم بعض الأسماء والأوصاف فليس في ذلك حجة لمن زعم من المشبهة أن الباري سبحانه مماثل للأشياء لأجل كونه شيئاً، ولا لمن زعم من المعتزلة أنه مشارك لها في ذلك.
والذي يدل على بطلان استغلاطهم للمتعلمين بذلك هو أن جميع الأسماء والأوصاف التي تعم الخالق والمخلوق يجب أن يقيد مطلقها ويخص عمومها بما يجب نفيه عن الخالق، وإثباته للمخلوق نحو أن يقال في الخالق سبحانه: شيء لا كالأشياء، وموجود لا بعد عدم، وواحد لا بمعنى العدد، وحي لا بحياة، وما أشبه ذلك مما يقع به التمييز والفرق بين القديم والمحدث في اللفظ والمعنى حقيقة لا مجازاً.
وبهذا الدليل يعلم بيقين أنه لا يجوز أن تكون أسماء الخالق سبحانه ولا أوصافه مشتقة من معنى غير ذاته، ولا من مزية زائدة عليها ليست بشيء، ولا لا شيء لما في ذلك من إيهام زائد ومزيد عليه، ومشتق ومشتق منه تعالى الله عن ذلك.
[الكلام في الفرق بين الفاعل والعلة]
وأما الكلام في الفرق بين الفاعل والعلّة:
أما الفاعل: فاعلم أن الفاعل الذي هو فاعل على الحقيقة هو كل حي قادر مختار إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، أو مكره على الفعل بغير اختيار، وجملة الفاعلين أربعة:(1/38)
[أقسام الفاعلين]
فالفاعل الأول: هو الله الخالق الباريء المصور المبديء المعيد، الفعال لما يريد، وفعله هو جميع أصول العالم وفروعه، التي لا خالق لها إلا هو سبحانه، خلافاً لمن أنكر ذلك من فرق الملحدين.
والفاعل الثاني: هو كل حي قادر عالم عاقل متمكن بما ركب الله له وفيه من القدرة، ومن آلة الحركة والسكون على تصريف حركته وسكونه فيما يختاره من فعل واجب أو مستحب أو محظور أو مكروه أو مباح، خلافاً للمجبرة.
والفاعل الثالث: هو كل عاقل مكره على فعل أو مسخورٍ من المماليك وغيرهم.
والفاعل الرابع: هو كل حي غير عاقل، وذلك لأن جميع أصناف الحيوانات التي ليست بعاقلة لا توصف بأنها مختارة، وإن كان بعضها ملهماً للتمييز بين ما ينفع ويضر، وهذا التقسيم للفاعلين مخالف لمذهب المجبرة؛ لأن كل فاعل من الخلق مجبور بزعمهم على فعله.
[ذكر صفة العلة عند القائلين بها]
وأما العلّة: فصفتها عند القائلين بها أنها بخلاف جميع ما تقدم ذكره من أوصاف الفاعلين؛ لأن وجود معلولها يجب أن يكون مقارناً لوجودها، قالوا: وتقدمها عليه تقدم بالرتبة لا بالزمان، وليس لها إلا معلول واحد.
[أقسام العلل]
واعلم أن العلل تنقسم على خمسة أضرب:(1/39)
ضرب: يستعمله من له معرفة بالقياسات العقلية من الموحدين، مثاله: ما يعلم ضرورة من كون كل صناعة في الشاهد كالبناء والكتابة محتاجة إلى صانع؛ لأجل كونها محدثة؛ فالعلة هي كون الصنعة محدثة، ومعلولها هو الحاجة إلى الصانع ولهذا وجب بطريقة القياس العقلي أن يكون العالم محتاجاً إلى صانع لأجل كونه محدثاً.
والضرب الثاني: يستعمله من له معرفة بالقياسات الفقهية، مثاله: تحريم النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - لبيع الفضة بالفضة متفاضلاً ونسأ؛ لأجل كونها جنساً موزوناً فالجنس والوزن هو العلة، ومعلولها هو تحريم البيع متفاضلاً ونسأ، وكذلك البر بالبر ولهذا وجب من طريق القياس الشرعي إجراء الحكم بذلك في كل ما شارك المنصوص عليه مما عداه في العلة والحكم.
والضرب الثالث: ما يستعمله من له معرفة بوجه الحكمة إذا سئل عن فعل من أفعال الله سبحانه لِمَ فعله؟؛ نحو أن يقال: لم خلق الله العالم؟
فنقول: لإظهار الحكمة.
فإن قيل: لم أظهر الحكمة؟
قيل: لأن إظهارها في العقل حسن، وفعل الحسن في العقل أولى من تركه، وهذا غاية ما ينتهى إليه بالسؤال في هذه المسألة.
وإذا سئل عما لم يعرف وجه الحكمة فيه، لم يُجِب إلا بأن الباري سبحانه حكيم، والحكيم لا يجب عليه أن يعرِّف الناس بعلة كل فعل يفعله، ولا خلاف في أنه يجب التسليم للحكيم المخلوق؛ فبأن يجب للباري سبحانه أولى.(1/40)