[سبب اختلاف فتاوى الأئمة وسيرهم والحكم في ذلك]
ومن أحكام هذا النوع جواز اختلاف فتاوى الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - وسيرهم إما لأجل [كون] بعض ما يحتجون به من الآيات والأخبار محتملاً لأكثر من تأويل، وإما لاختلاف أحوالهم في التمكن، وإما لأجل سهو بعضهم في بعض المسائل أو سهو من حكى عنهم، وإما تدليس مدلس في بعض كتبهم، ونحو ذلك مما يجوز وقوعه.
ولا يجوز لأحد أن ينسب إليهم الإختلاف في الدين بل يجب حسن الظن بهم، والتأول لما أشكل من كلامهم، ونفي كل ما علم كونه خطأ عنهم، ويجب التمسك بالحي منهم دون الميت، وإن كان وقت فترة وجب العمل بالأحوط من أقوالهم، وذلك لأن كثيراً من المسائل مرجأ لأنظار الأئمة في كل عصر على حسب تمكنهم نحو الحكم فيمن كُفْره كفر إلزام، وفي حمل المرتدة الذي حملت به قبل ردتها هي وزوجها، وفي ذمة أهل الكتاب، وفي قاطع الصلاة المقر بوجوبها عليه، وفي مسألة الرد على ذوي الأرحام، وفي رجل خلف أختين لأب وأم وأختاً لأب معها عصبة غير إخوة، وفي أمور مما يجب أن تدرأ به الحدود، وفي غلو من غلا من شيعة الإمام الأول إما في تشديد أو ترخيص ورده إلى الحد الذي تعداه.(1/341)
ومن لطيف أنظار الأئمة، ومستحسن سيرهم استخراج بعضهم من مجمل حكم بعض ما يكون أصلح للمحكوم عليه في بعض الأحوال اقتداء بما حكاه الله سبحانه من حكم داود وسليمان - عَلَيْهما السَّلام - في غرم ما استهلكته غنم قوم من غَلَّة حرث قوم آخرين؛ فحكم داود - عَلَيْه السَّلام - بوجوب غرم ذلك حكماً مجملاً من غير تعيين وقت، وذلك هو ظاهر الحكم الواجب الذي لا خلاف فيه، ونظر سليمان - عَلَيْه السَّلام - في ذلك بتوفيق الله سبحانه له فعلم أن الغرم من غلّة الغنم أصلح لأهلها، وأنه لا خلل في ذلك على أهل غلة الحرث لأجل تأخر وقت حصاد تلك الغَلّة كتأخر غلة الغنم؛ فصوب الله سبحانه حكمه بذلك، ولم يخط أباه بل قال سبحانه: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا ءَاتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء:79]، فتأمل ذلك وما أشبهه.
[ذكر ما طريق معرفته من مسائل الفقه الرجوع فيه إلى حكم الحاكم وأمثلته وأحكامه]
وأما النوع الرابع: وهو ما طريق معرفته الرجوع فيه إلى حكم الحاكم؛ فمن أمثلته تقدير الحكومات فيما لا أرش له من الجنايات، ومقادير واجب النفقات، والتوسط بالصلح فيما تساوت فيه الأيمان أو البينات، وما أشبه ذلك من الأحكام التي لا يجوز أن ينظر فيها إلا من ينصبه إمام الحق إلا على وجه الإحتساب في أوقات الفترات لمن يجوز له الإحتساب من أهل الدين والعلم والورع.(1/342)
ومن أحكام هذا النوع: كونه متفرعاً عن معرفة الحاكم لظواهر أحكام الشريعة، وعن الخبرة والمعرفة لأحوال الخصوم بخلاف ما لايجوز الرجوع فيه إلا إلى الأئمة خاصة لأن ما يرجع فيه إليهم متفرع عن استنباطهم لغامض علم الكتاب الذي خصهم الله بإرثه وجعلهم أهلاً له.
وعلم الحكام متفرع عن علوم الأئمة، ومن هنا يعلم بطلان قول من زعم أنه لا فرق بينه وبين الأئمة في علم غامض الكتاب، ويعلم أن كل اجتهاد لهم خالفوا فيه إجماع العترة فهو باطل، وأن ما كان منه موافقاً لكلهم أو لبعضهم فنسبته إلى الأئمة أولى من نسبته إليهم لأجل كونهم رعية لا رعاة؛ فاعرف.
[ذكر ما طريق معرفته من مسائل الفقه الرجوع إلى حكم عدلين وأمثلته وأحكامه]
وأما النوع الخامس: وهو ما طريق المعرفة له الرجوع إلى حكم عدلين؛ فمن أمثلته قول الله سبحانه في جزاء ما يقتل من الصيد المُحْرِمُ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة:95]، وقوله سبحانه في شأن الزوجين: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا...الآية} [النساء:35].(1/343)
كتاب
بيان الإشكال فيما حُكيَ عن المهدي(ع) من الأقوال
تأليف السيد الإمام / أبي عبدالله نور الدين حميدان بن يحيى
رضي الله عنه وأرضاه
بسم الله الرحمن الرحيم
[وبه نستعين]
[ديباجة الكتاب]
أما بعد حمد الله تعالى على جزيل آلائه، والصلاة على محمد خاتم أنبيائه، وعلى السابقين والمقتصدين من أبنائه، والسلام على جميع الصالحين من أوليائه.
فإنه لما صحّت لنا إمامة الإمام المهدي لدين الله الحسين بن القاسم بن علي بن عبدالله بن محمد بن القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل عَلَيْهم السَّلام لأجل تكامل شروط الإمامة المعتبرة في كل إمام، ولما خصه الله تعالى به من الفضائل والخصائص المشهورة، ولما وضع على حداثة سنه من العلوم الباهرة الكثيرة، ولحسن سياسته وسيرته، وظهور عدله ولطفه برعيته، واستظهاره بما أوضح من الأدلة الدامغة لجميع مخالفيه.
ولما رُوي من إشارة النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - إلى قيامه في الوقت الذي قام فيه، وأشباه ذلك مما عجز رفضته عن إنكاره لاشتهاره، حتى التجأوا إلى التحيل بأن يكون بعضهم من خواصه وأنصاره، ليتوصلوا بذلك إلى اللبس والتدليس في كتبه، والصد بالكذب والتحريف عن سلوك مذهبه، وحتى أن من الناس من نسبه لأجل ذلك إلى الجهل، ومنهم من وصفه بزوال العقل، ومنهم من غلا ففضله على السلف، ورفض من بعده من أئمة الخلف.(1/344)
أردت إذ ذلك أن أعرف بما المعول عليه، وما الذي يجب أن ينسب من الأقوال إليه؛ فانتزعت من مشهور ألفاظه الصريحة المذكورة فيما أجمع عليه من كتبه الصحيحة أقوالاً أخبر عَلَيْه السَّلام فيها أنه قد كذب عليه، في كثير مما ينسب إليه، وأقوالاً حذر فيها من الاغترار ببعض المتنسكين، وبما يصدر في الكتب من مشكل روايات المدلسين، وأقوالاً علم فيها كيف يعمل فيما يقع في بعض العترة من الإشكال، وفي مشكل ما ينسب إلى الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - من الأقوال، وأقوالاً عارض بها ما ينسب إليه من البدع، وكثر بها عليه من الشنع.
[ذكر أقوال الإمام المهدي (ع) التي أخبر فيها أنه قد كُذب عليه]
أما الأقوال التي أخبر فيها أنه قد كذب عليه:
فمنه؛ قوله في باب السَّلَمِ من كتاب مختصر الأحكام: ولست أصدق بكل ما روي عن رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- لقلة الثقات، وطول الزمان، وهاأنا أسمع في حياتي، من الروايات الكاذبة عليَّ، ما لم أقل ولم أفعل؛ فربما يسمع بذلك أولياء الله فيصدقون به، والعهد قريب.
وقوله في بعض أجوبته لعبد الملك بن غطريف: وذكرت أني فضلت نفسي على الأنبياء عَلَيْهم السَّلام وحاش لله ما قلت ذلك في شيء من الكلام.
..إلى قوله: فمتى سمعت أني فضلت نفسي عليهم، أو ذكرت أني أعلم وأبرع منهم، ما أحسب إلا أن ذلك نقل إليك، واشتبه اللفظ والكلام عليك.(1/345)