والثانية والعشرون: قوله سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(11)} [فاطر]، فانظر كيف صرح سبحانه بإبطال الإحالة والعمر الطبيعي تصريحاً ظاهراً لفظاً ومعنى.(1/336)
تنبيه أولي الألباب على تنزيه ورثة الكتاب
من كلامه - عَلَيْه السَّلام -
بسم الله الرحمن الرحيم
[مقدمة الكتاب والحامل للمؤلف على تأليفه]
أما بعد حمد من فطر العقول على معرفة الأدلة، وعرف المكلفين بجميع حدود فرائض الملة، وبأولي الأمر الحافظين لها ولهم من الشبه المضلة، والصلاة على محمد خاتم النبيين، وعلى آله الخيرة المنتجبين.
فإنه لما كثرت مخالفة من خالف بين الأئمة، واستغنى بالإجتهاد عنهم كثير من الأمة، وقل من ينظر فيما يجب من معرفة التأويل، لما يوجد في كتبهم من مختلف الأقاويل، رأيت لأجل ذلك أن أنبه من أحب أن يتفقه من الشيعة، فيما وضعوه - عَلَيْهم السَّلام - من كتب الشريعة، بمختصر مما يحض على سلوك مذهبهم، وعلى التبصر في فوائد كتبهم، ويدل على أنهم - عَلَيْهم السَّلام - لم يفرقوا دينهم، فيكون في ذلك حجة لمن خالفهم أو خالف بينهم، غير متحدٍّ في شيء من ذلك لرافض، ولا متعرض به لجدال معارض، وقسمتُ جملة الكلام فيه على ستة فصول:
الأول: في ذكر جملة من أصول الفقه المذكورة في الكتاب والسنة وأحكامها.
والثاني: في ذكر الأصول التي يحتج بها من خالف الأئمة أو خالف بينهم.
والثالث: في ذكر جملة من اختلاف أحوال الأئمة.
والرابع: في ذكر ضروب من أمثلة ما خولف فيه بين الأئمة، وما يصح منه وما لا يصح.
والخامس: في ذكر ما أجمع عليه من صفة من يجوز له الإجتهاد.
والسادس: في ذكر الفرق بين الشيعي والمتشيع.(1/337)
[ذكر جملة من أصول الفقه المذكورة في الكتاب والسنة وأحكامها]
أما الفصل الأول: وهو في ذكر أصول الفقه في الكتاب والسنة وأحكامها
فالغرض بذكرها التنبيه على معرفة الفرق بين الخطاب العام والخاص، والإختلاف المحظور والجائز، وبين ما يرجع المجتهد فيه إلى نفسه أو إلى غيره، ونحو ذلك مما يمكن من عرفه رد كل ما يسأل عنه إلى أصله، والتمييز بين ما التبس من فقه الأئمة، بمبتدع فقه العامة، وبين الحاكي لمذهب غيره، والمتعاطي برأيه.
[ذكر جملة ما يعمه اسم الفقه وطريق معرفته]
وبيان ذلك هو: أن جملة ما يعمه اسم الفقه ستة أنواع مختلفة الأحكام، وذلك لأن جميع مسائل الفقه لا تخلو: إما أن تكون مما طريق معرفته النص البين، أو القياس المنصوص على مثال جنسه، أو السؤال لمن يجب سؤاله والرد إليه من أولي الأمر وأهل الذكر، أو الرجوع فيها إلى الحاكم، أو إلى حكم عدلين، أو إلى نظر المكلف لنفسه وتحريه للأصلح فيما التبس عليه.
[ذكر ما طريق معرفته من مسائل الفقه النص البين وأمثلته والأحكام التي تخصه]
أما ما طريق معرفته النص البين: فمن أمثلة ذلك ما ذكره الله سبحانه من مقادير سهام ذوي السهام من الورثة، وأنواع الكفارات، وأوقات العدة، وكذلك كلما لم يختلف في أن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - بينه بقوله أو فعله من مجمل النصوص.
ومن أحكام هذا النوع التي تخصه كون الخطاب به عاماً يستوي في معرفته، و[في] وجوب العمل به كل مكلف.(1/338)
ومنها: استمرار وجوب التعبد به في كل عصر، من غير تكلف نظر.
ومنها: حظر السؤال عن علل أحكامه لأجل كونه تكليف من لا يُسأل عما يفعل، ولذلك قال القاسم بن إبراهيم - عَلَيْه السَّلام -: السؤال عن اللِّميات في الشرعيات زندقة.
ومنها: حظر تأولها وتحريفها على غير ما يفيده ظاهرها، ولذلك سميت الباطنية زنادقة لأجل قولهم: إن لكل ظاهر من الفروض باطناً، وذلك لأن النصوص البينة جارية في العلم بها مجرى العلوم الضرورية؛ فكما لا يجوز تحريف العلوم الضرورية العقلية، فكذلك لا يجوز تحريف النصوص الشرعية البينة.
[ذكر ما طريق معرفته من مسائل الفقه القياس وأمثلته والأحكام الخاصة له]
وأما النوع الثاني: وهو ما طريق معرفته القياس على ما ورد النص بتعيين جنسه، وذكر صفته فمن أمثلته نهي النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - عن بيع الفضة بالفضة إلا مثلاً بمثل، [و]يداً بيد، وكذلك البر بالبر ونحو ذلك مما علم من قصده - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه إنما أصله ليقاس عليه كل ما شاركه في اسم الجنس، وصفة الوزن أو الكيل في تحريم بيع بعض ببعض متفاضلاً أو مؤجلاً، ومن أحكام هذا النوع الخاصة له كون مسائله بخلاف مسائل النوع الأول، وإن كان كلها معلوماً بالنص، وذلك لأن كل فريضة من فرائض النوع الأول نحو الصلاة والزكاة لا يصح قياسها ولا القياس عليها، ولذلك لم يجز السؤال عن عللها إذ لو كان لها علل وجبت لأجلها لما عقل كونها تعبداً لفاعل حكيم مختار يجب التسليم لأمره.(1/339)
ومسائل هذا النوع الثاني يصح السؤال عن عللها لأجل كونها مسائل قياس كما أراد الله سبحانه، والقياس لا يصح كونه قياساً إلا إذا كان الذي يقاس مشاركاً للذي يقاس عليه في اسم جنس معلوم وصفة خاصة معلومة، ولذلك جاز ورود الغلط والإلتباس، في كثير من مسائل القياس، لأجل جهل كثير من القايسين بصفة ما يصح قياسه، والقياس عليه، وصفة من يجوز له القياس.
[ذكر ما طريق معرفته من مسائل الفقه السؤال لمن يجب سؤاله وذكر أحكامه]
وأما النوع الثالث: وهو ما طريق معرفته السؤال لمن يجب سؤاله، والرد إليه من أولي الأمر وأهل الذكر.
فاعلم أن الله سبحانه لما علم ما سيكون من الأمة في تأويل كثير من الآيات، وفي كثير من الأخبار جعل لكل قوم في كل عصر هادياً، وأوجب على رعيته طاعته وسؤاله عن كل مختلف فيه، وسيأتي إن شاء الله تعالى من أمثلة ذلك ما ينبه على ما عداه في فصل ما خولف فيه بين الأئمة.(1/340)