وقال يعني المنصور بالله (ع) في بعض أجوبته الموجودة بخطه - عَلَيْه السَّلام -: وسألت عمن يرضي عن الخلفاء، ويحسن الظن فيهم وهو من الزيدية ويقول: أنا أقدم علياً - عَلَيْه السَّلام - وأرضي عن المشائخ، ما يكون حكمه، وهل تجوز الصلاة خلفه ؟
الجواب عن ذلك: أن هذه مسألة غير صحيحة فيتوجه الجواب عنها لأن الزيدية على الحقيقة هم الجارودية، ولا يعلم في الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - بعد زيد بن علي - عَلَيْه السَّلام - من ليس بجارودي، وأتباعهم كذلك، وأكثر ما نقل وصح عن السلف هو ما قلنا -يعني التوقف- على تلفيق واجتهاد، وإن كان الطعن والسب من بعض الجارودية ظاهراً، وإنما هذا رأي المحصلين منهم، وإنما هذا القول قول بعض المعتزلة يفضلون علياً - عَلَيْه السَّلام - ويرضُّون عن المشائخ؛ فليس هذا يطلق على أحد من الزيدية.
لأنا نقول: قد صح النص على أمير المؤمنين (عَلَيْه السَّلام) من الله تبارك وتعالى ورسوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وصحت معصية القوم وظلمهم وتعديهم لأمر الله سبحانه، وإن كانت جائزة المعصية والترضية؛ فما أبعد الشاعرُ في قوله:
فويل تالي القرآن في ظلم الليـ.... ـل وطوبى لعابد الوثن
ومن حاله ما ذكرت لا يعد في الزيدية رأساً، وإنما هذا قول بعض المعتزلة، وصاحب هذا القول معتزلي لا شيعي ولا زيدي.(1/296)


وأجمل من قال في أبي بكر وعمر وعثمان من آبائنا المتأخرين عَلَيْهم السَّلام إنما هو المؤيد بالله عَلَيْه السَّلام فنهاية ما ذكر أنهم لا يسبون، وأن سبهم لا تصح روايته عن أحد من السلف الصالح عَلَيْهم السَّلام.
فأما الترضية فهذا يوجب القطع على أن معصيتهم صغيرة فإن أوجدنا صاحب هذه المقالة البرهان على أن معصيتهم صغيرة تابعناه؛ فليس على متبع الحق غضاضة، ولكنه لا يجد السبيل إلى ذلك أبداً.
أو عصمتهم ولا قائل بذلك من الأمة، وشاهد الحال لو ادعى ذلك لفضحه؛ لأن طلحة والزبير من أفاضلهم وقد صح فسقهما بالخروج على إمام الحق، وإنما رويت توبتهما، ولم يرو من الثلاثة توبة عما أقدموا عليه من الإمامة وتأخير علي عَلَيْه السَّلام عن مقامه الذي أقامه الله سبحانه فيه ورسوله.
وأما الصلاة خلف من ذكرت ففي الصلاة خلاف طويل، وقد أجازها الأكثر خلف المخالفين ما لم يكن خلافهم كفراً؛ فالأمر في ذلك يهون، والاحتراز من الصلاة خلف من يقول بذلك أولى.
ومن شعره - عَلَيْه السَّلام - في معنى ذلك، قوله:
فعدّ عن المنازل والتصابي.... وهات لنا حديث غدير خمّ
[فيا لك موقفاً ما كان أسنى.... ولكن مر في آذان صمّ]
لقد مالَ الأنامُ معاً علينا.... كأن خروجنا من خلف ردمِ
وقوله:
أرى الناس من بعد يوم الغدير.... سواسية ليلهم أغدرا
فلم قدموا شيخ تيم عتيق.... ولم أخروا الهاشمي حيدرا
فلا تعجبنَّ فإن الخطوب.... تُري ما يُرى أنه لا يُرى(1/297)


وقوله:
أأرضى أن يكون أبو حسينٍ.... رباعياً وفي كفي حسامي
معاذَ اللهِ ليسَ يكونُ هذا.... ولما نحتسي جرع الزؤامِ
إذا لم تغضبوا للدين جهراً.... ولم تحموا عليه فمَن يحامِ
وقوله:
أيها الطالب ملكاً لم تصب.... إن فيه الهلك فاسأل مَنْ خَبر
لو وعوا ما قيل في أربابها.... لم يقلدها أبو بكر عمر
وقوله:
كم بين قولي عن أبي عن جده.... وأبو أبي فهو النبي الهادي
وفتىً يقول حكى لنا أشياخنا.... ما ذلك الإسناد من إسنادي
(والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وسلم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم).
الهوامش______
()ـ هو الإمام الباقر محمد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهم السَّلام- ويكنى بأبي جعفر.
ولد -عَلَيْه السَّلام- سنة تسع وخمسين، ولقب بالباقر، وبشر به رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وأمر جابر أن يقرئه السلام بقوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-: ((يا جابر إنك ستعيش حتى تدرك رجلاً من أولادي اسمه اسمي يبقر العلم بقراً، فإذا رأيته فأقرئه مني السلام)) فلما رآه جابر اعتنقه وقال له: جدك يقرأ عليك السلام.
وكان -عَلَيْه السَّلام- من عظماء أهل البيت -عَلَيْهم السَّلام- وعلمائهم المجمع على جلالته وفضله وعلمه وعلو منزلته، وأمه هي فاطمة بنت الحسن بن علي بن أبي طالب، وهو أول من اجتمعت له ولادة الحسنين.(1/298)


توفي -عَلَيْه السَّلام- سنة ثمان عشرة ومائة، عن ثلاث وستين سنة، ودفن بالبقيع إلى جنب أبيه السجاد، وجده الحسن بن علي، وجدته فاطمة بنت رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-.
()ـ المشهور أن هذه الأبيات من قصيدة الإمام المنتصر لدين الله محمد بن الإمام المختار القاسم بن الإمام الناصر أحمد بن الهادي -عَلَيْهم السَّلام- من قصيدته المشهورة التي مطلعها:
علام اللوم يا سلمى علاما.... عداك اللوم فاطّرحي الملاما
() ـ سعد بن عبادة بن دُليم الخزرجي سيد الخزرج صاحب راية الأنصار في المشاهد كلها، وشهد بدراً، وقيل لم يشهدها، وهو من نقباء الأنصار ليلة العقبة، وكان يسمى الكامل لكماله في أشياء كثيرة كالرمي وغيره، وكان كثير الصدقات والجود، وتخلف عن بيعة أبي بكر، وخرج من المدينة، ولم يرجع إليها حتى قتل سنة إحدى عشرة في خلافة أبي بكر، وفي قتله ما يقول حسان بن ثابت:
يقولون سعداً شقّت الجنّ بطنَه.... ألا ربما حققت أمرك بالعذرِ
وما ذنب سعد أنه بال قائماً.... ولكن سعداً لم يبايع أبا بكرِ
لأن سَلِمَتْ من فتنة المال أنفسٌ.... لما سلمت من فتنة النهي والأمرِ
فيا عجبا للجن تقتل مسلماً.... على غير ذنب ثم ترثيه بالشعرِ(1/299)


وروي في قتله: أن والي الشام جعل له كميناً؛ فلما خرج إلى الصحراء قتله ذلك الكمين، بسبب تخلّفه عن البيعة، وروي أنه قُتل بحوّارين من أعمال دمشق سنة (15هـ) تقريباً في خلافة عمر بن الخطاب، انظر: شرح نهج البلاغة ج1 ص292، لوامع الأنوار ج3 ص85، الطبقات - خ -، حاشية شرح الأزهار ج1.(1/300)

60 / 94
ع
En
A+
A-