فمذهب العترة في ذلك: أن الله سبحانه عالم بكل شيء يصح العلم به، من صفة وموصوف، وأن علمه بذلك فيما لم يزل لا يوجب ثبوت شيء من خلقه قبل أن يجعله شيئاً، ولا ثبوت شيء من أفعال عباده قبل أن يفعلوها، وأنه لا يجوز أن يوصف بالثبوت فيما لم يزل إلا الله وحده لا شريك له، وأنه سبحانه قادر على أن يخلق خلقاً بعد خلق إلى ما لا نهاية له.
ولا يجوز أن توصفبعض مقدوراته سبحانه بأنها ثابتة فيما لم يزل لأجل كونه قادراً فيما لم يزل، ولا بأنها لا نهاية لها لأجل كونه سبحانه قادراً لذاته.
ومذهب بعض المعتزلة: أن كل شيء معلوم لله سبحانه فيما لم يزل؛ فإنه يجب أن يكون ثابتاً فيما لم يزل، لأجل كونه سبحانه عالماً به فيما لم يزل، ولذلك لم يمكنهم أن يفرقوا بين ذات الباري سبحانه وبين سائر الذوات في الوصف بالثبوت فيما لم يزل، ولا في أنه يصح العلم بكل واحد منها على انفرادها؛ لأنه قد انتضمها وجمعها الحد المنطقي بزعمهم.
قالوا: وكل مقدور له سبحانه فإنه يجب ثبوته فيما لم يزل لأجل كونه قادراً فيما لم يزل، ويجب أن تكون مقدوراته سبحانه لا نهاية لها؛ لأجل كونه بزعمهم قادراً لذاته أو لما هو عليه في ذاته على حسب اختلافهم في الموجب لكونه قادراً...(1/251)
والذي يدل على صحة مذهب العترة في ذلك وبطلان مذهب من خالفهم فيه من المعتزلة وغيرهم: هو كون ذوات العالم بإجماعهم هي العالم، والعالم محدث، والحدث نقيض الأزل؛ فيجب أن يستحيل الجمع بين وصف ذوات العالم بأنها محدثة وثابتة فيما لم يزل، وكذلك فإنه يستحيل بإجماعهم وجود ذوات العالم فيما لم يزل فيجب أن يستحيل ثبوتها فيما لم يزل لعدم الفرق المعقول بين الثبوت والوجود، ولأن الله سبحانه قد أخبر في محكم كتابه بأنه الأول، وثبت بأدلة العقل أنه سبحانه ثابت فيما لم يزل، وأنه لا أول لثبوته.
فلو كانت ذوات العالم كما زعموا ثابتة فيما لم يزل، لم يكن ما لا أول لثبوته أولى بالأولية مما لثبوته أول؛ ولأن القول بذلك يؤدي إلى إبطال أدلة العقل والسمع، وإبطال معنى التوحيد؛ لأنه سبحانه قد أخبر أنه لا يحاط به علماً.
فلو كانت ذاته كما زعموا يصح العلم بها على انفرادها كسائر الذوات للزم أن لا يكون بين ذاته سبحانه وبين سائر الذوات فرق في أنه يحاط بها علماً أو أنه لا يحاط بها علماً...(1/252)
والذي يدل على بطلان قولهم بأن مقدورات الباري سبحانه ثابتة فيما لم يزل، وأنه لا نهاية لها: إقرارهم بأن ذوات العالم هي بعض المقدورات التي زعموا أنها ثابتة فيما لم يزل، وأنها لا نهاية لها، وإقرارهم بأن للعالم نهاية فيلزمهم بالإضطرار أن يكون لكلها نهاية؛ لأن كل ما له بعض فبعضه لا يخلو من أن يكون مثله أو أقل منه أو أكثر، وكل موصوف بالتساوي والقلة والكثرة متناهٍ وكل متناهٍ محدث، والحدث نقيض الأزل...(1/253)
المسائل الباحثة عن معاني الأقوال الحادثة
من كلامه رضي الله عنه وأرضاه
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة: كيف يجوز التفكر في إثبات ذات الله سبحانه مشارِكةً لذوات الجواهر، ولذوات الأعراض في الذاتية، وفي أنه يصح العلم بها على انفرادها، مع كون التفكر فيه سبحانه محظوراً؟ ولذلك قال النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((تفكروا في آلاء الله، ولا تفكروا في الله)) ، وقوله: ((تفكروا في المخلوق ولا تفكروا في الخالق)).
وقول أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام -: (من تفكر في الصنع وحد، ومن تفكر في الصانع ألحد).
مسألة: كيف يجوز التوصل بالنظر والقياس إلى إثبات أمر موجبٍ لكون الباري سبحانه قادراً وعالماً، وحياً وموجوداً، مع كون ذلك تكلفاً لما لا يجب، وإثباتاً لما لا يجوز ولا يعقل؟ ولذلك قال أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام -: (انظر أيها السائل فما دلك القرآن عليه من صفته فائتم به، واستضيء بنور هدايته، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في القرآن فرضه، ولا في سنة النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وأئمة الهدى أثره، فَكِلْ علمه إلى الله فذلك منتهى حق الله عليك).....(1/254)
وقال في وصيته لابنه الحسن - عَلَيْهما السَّلام -: (واعلم - أي بني - أن أحب ما أنت آخذ به من وصيتي تقوى الله؛ والإقتصار على ما افترض الله عليك، والأخذ بما مضى عليه أولوك من آبائك، والصالحون من أهل بيتك؛ فإنهم لم يدعوا أن ينظروا لأنفسهم كما أنت ناظر، وفكروا كما أنت مفكر، ثم ردهم ذلك إلى الأخذ بما عرفوا، والإمساك عما لم يكلفوا).
..إلى قوله: (واعلم أن أحداً لم ينبئ عن الله عز وجل كما أنبأ محمد - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - فارض به رائداً، وإلى النجاة قائداً).
مسألة: كيف يجوز إثبات صفات الباري سبحانه ووصفها بأنها أمور زائدة على ذاته مترتبة في الوجوب، مختلفة في الأحكام، ومشتركة في الثبوت فيما لم يزل، مع كون ذلك موجباً للتعديد إذ لا يعقل إثبات موجب وواجب، وموجب له فيما لم يزل لشرط ثبوت هذه الثلاثة المعدودة فيما لم يزل، وذلك خلاف التوحيد؟
ولذلك قال أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - في توحيده الموثوق بصحته: (من وصفه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن عده فقد أبطل أزله).
وقال: (وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه بشهادة كل صفة أنها غير الموصوف، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة؛ فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله).(1/255)