الأول: أن ذلك الإدراك المتجدد لا يخلو إما أن يكون معقولاً، أو غير معقول؛ فإن كان غير معقول لم يجز إثباته لتحريم الله سبحانه على المكلفين أن يقولوا عليه ما لا يعلمون.
وإن كان معقولاً فلا يخلو إما أن يكون درك العلم أو درك الحواس، ولا واسطة مما يعقل؛ فإن كان درك العلم لم يجز وصفه بالتجدد، وإن كان درك الحواس لم تجز إضافته إلى الله سبحانه.
الثاني: أن الإدراك المتجدد لا يعقل إلا إذا كان بعد أن لم يكن، وكل متجدد كان بعد أن لم يكن فإنه يجب أن يحتاج إلى مجدد جدده، لاستحالة أن يكون جدد نفسه، وأن يكون تجدد لا عن مجدد كما يستحيل في كل محدث بإجماعهم أن يحدث نفسه وأن يحدث لا عن محدث، ولا فرق بين التجدد والحدوث في المعنى إلا باصطلاحهم الخارج عن حد العقل.
الثالث: أن الله سبحانه لو كان مدركاً بإدراك متجدد لم يخل إما أن يدرك به الذوات دون الصفات، أو الصفات دون الذوات، أو الذوات والصفات معاً.
فإن زعموا أنه يدرك الذوات؛ فالذوات عندهم ثابتة فيما لم يزل.
وإن زعموا أنه يدرك الصفات التي هي الوجود وتوابعه؛ فالوجود عندهم لا يعلم بانفراده فضلاً عن أن يدرك.
وإن زعموا أنه يدرك الذوات والصفات معاً؛ فالصفات عندهم ليست شيء، ولا لا شيء؛ فكيف يصح لهم وصفها بأنها مدركة مع الذوات.(1/246)


الرابع: أنه لو جاز أن يؤدي النظر إلى إثبات إدراك لله سبحانه متجدد يدرك به المسموعات والمبصرات؛ لم يمتنع أن يؤدي ذلك النظر إلى إثبات إدراك له سبحانه [متجدد] يدرك به المشتهيات والملموسات لعدم المخصص لإدراك دون إدراك، ومدرك دون مدرك، وكل ذلك مستحيل لا تجوز إضافته إلى الله سبحانه.
ومما يشهد بصحة هذه الجملة من أقوال الأئمة:
قول أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - فيما تقدم ذكره من خطبته: (عينه المشاهدة لخلقة، ومشاهدته لخلقه أن لا امتناع منه، سمعه الإتقان لبريته).
وقول علي بن الحسين - عَلَيْه السَّلام - في توحيده: (سميع لا بآلة بصير لا بأداة).
وقول جعفر بن محمد الصادق - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الإهليلجة: (إنما تسمى تعالى سميعاً بصيراً لأنه لا يخفى عليه شيء).
وقول محمد بن القاسم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الشرح والتبيين: (إنما عنى بقوله تبارك وتعالى: سميع بصير، الدلالة لخلقه على دركهم، وعلمه لأصواتهم، التي إنما يعقلون دركها عندهم بالأسماع، وأنه مدرك عالم بجميع أشخاصهم وهيئاتهم، وصورهم وألوانهم، وصفاتهم وحركاتهم، التي إنما يعقلون دركها بالعيون والأبصار، إذ درك المخلوقين؛ للأصوات والأشخاص بالأسماع والعيون، التي ربما كلت وتحيرت وأخطأت، وأدركت ظاهراً دون باطن وقصرت.
ودرك الله تبارك وتعالى لهذا كله درك واحد، محيط بما ظهر وبطن، وبما بَعُدَ وقرب، وهو درك علمه الذي لا يفوته من المدركات شيء)...(1/247)


وقول الهادي إلى الحق - عَلَيْه السَّلام - في كتاب المسترشد: (معنى سميع هو عليم، والحجة على ذلك قول الرحمن الرحيم: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف:80]، والسر فهو ما انطوت عليه الضمائر، وقوله: {بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(15)} [آل عمران]، يريد عالم محيط بكل أمرهم مطلع على خفي سرائرهم).
وقوله في كتاب الديانة: (وهو السميع البصير ليس سمعه غيره، ولا بصره سواه، ولا السمع غير البصر، ولا البصر غير السمع).
وقول القاسم بن علي - عَلَيْه السَّلام - في كتاب التجريد: (والله فعظيم الشأن، قوي السلطان، لم يزل مدركاً للأشياء قبل تكوينها، ولا فرق بين دركه لها بعد تكوينها، ودركه لها قبل تكوينها).
تم الكلام في الموضع الثالث.

[الكلام في العالم وصفات ذواته وذكر فنائه]
وأما الموضع الرابع: وهو الكلام في العالم وصفات ذواته وكيفية فنائه
فهو ينقسم على ستة فصول:
الأول: في ذكر ذوات العالم وصفاتها على الجملة.
والثاني: في ذكر تعلق العلم بالمعلوم.
والثالث: في ذكر تعلق القدرة بالمقدور.
والرابع: في ذكر ما ليس لله فيه تأثير، وما ليس هو له في الأزل بمعلوم.
والخامس: في ذكر الجواهر.
والسادس: في ذكر كيفية فناء ذوات العالم.
[ذكر ذوات العالم وصفاتها على الجملة]
أما الفصل الأول: وهو في الكلام في ذوات العالم وصفاتها على الجملة..(1/248)


فمذهب العترة: أن ذوات العالم هي أجسامه، وصفاتها هي أعراضها، وأنه لا يصح العلم بانفراد ذوات العالم عن الأعراض، ولا العلم بانفراد الأعراض عن ذوات العالم، وأنه لا دليل في العقل ولا في السمع يدل على أن شيئاً سوى الله -سبحانه- ليس بجسم، أو صفة جسم وهي لا توجد منفردة عن محل.
ومذهب المعتزلة المقدم ذكرهم: أن ذوات العالم جواهر وأعراض يصح العلم بكل واحدٍ منها على انفراده، وأن صفاتها أمور زائدة عليها لا توصف بأنها هي هي، ولا غيرها، ولا شيء ولا لاشيء، ولا فرق في ذلك على الجملة عندهم بين الباري سبحانه وبين غيره، ولذلك حدوا الذوات كلها بحد واحد جامع، وشاركوا بينها في الذاتية، وكذلك الصفات.
والذي يدل على صحة مذهب العترة في ذلك وبطلان مذهب المعتزلة: هو أن تسمية الجوهر جوهراً والعرض عرضاً فرع على معرفة الفرق بينهما؛ لأنه لو لم يكن بينهما فرق لم يكن أحدهما بأن يكون جوهراً أو عرضاً أولى من الثاني.
ولا سبيل إلى معرفة الفرق بينهما إلا بعد وجودهما، ولا فرق بينهما بعد وجودهما إلا بكون الجوهر محلاً، وكون العرض حالاً عارضاً حالة وجوده في غيره؛ فلذلك سمي عرضاً، ولا يعقل وجوده إلا حالاً في غيره، وما لم يعقل وجوده إلا في غيره لم تصح دعوى العلم به منفرداً.
بدليل أن أحداً لو ادعى مشاهدة ذلك لعلم كذبه ضرورة، وكذلك الجوهر لا يعقل وجوده إلا مجتمعاً أو متفرقاً، أو متحركاً أو ساكناً، فلا يصح دعوى العلم به منفرداً...(1/249)


ومما ينبه اتباع أئمة الهدى على صحة ذلك من أقوالهم:
قول القاسم بن إبراهيم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الدليل الكبير: (وحدث الحركة والزمان، وقرائنهما من الجسم والصورة والمكان، مما لا ينكره إلا مكابر لعقله وفاحش مستنكر من جهله دون من سلمت من الخبل نفسه ونجت من نقص الآفات حواسه).
وقوله في كتاب مسألة الملحد: (لأن الأجسام لا يجوز أن تخلو من هذه الصفات فيتوهمه ويمثله في نفسه خالياً منها؛ فإذا لم يجز ذلك ثبت أن الأجسام حكم أصولها كحكم فروعها).
وقول الهادي إلى الحق - عَلَيْه السَّلام - في كتاب المسترشد: (فلما أن وجدت العقول والحواس أجساماً مثلها مصورات كتصويرها، وأعراضاً لا تقوم إلا بغيرها استَدْلَلَتْ على الفاعل بفعله).
وقول الحسين بن القاسم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب نهج الحكمة: (وإنما الأصل في الأجسام أن كل ما قام بنفسه، وتعلقت الأحوال به، فهو جسم محل للأعراض، والعرض هو ما كان حالاً في غيره، وكان لا ينفرد بذاته ولا يحله سواه).
[ذكر تعلق العلم بالمعلوم والقدرة بالمقدور]
وأما الفصل الثاني والثالث:
وهما الكلام في ذكر تعلق العلم بالمعلوم وتعلق القدرة بالمقدور..(1/250)

50 / 94
ع
En
A+
A-