أحدهما تفكرهم في كيفية مبدأ الخلق وما أشبه ذلك من الغيوب التي لا يعلمها إلا الله سبحانه، وكذلك قال سبحانه: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} [الكهف:51].
والثاني: إنكارهم لما يعقل وإثباتهم لما لا يعقل، أما إنكارهم لما يعقل فنحو كون أنواع المتولدات، من الحيوان والنبات، وما فيها من حسن التدبير والتسخير والتركيب العجيب ليس دالاً على أن لها صانعاً مختاراً.
وأما إثباتهم لما لا يعقل فنحو إضافتهم لذلك إلى علل ميتة مخلوقة، ونحو تجويزهم لكمون الضد في ضده، ووجوده قبل وجوده، وقدمه قبل حدوثه، وما أشبه ذلك من المحالات الخارجة عن حد العقل.
ومنها: كون أكثر عباراتهم متناقضة في اللفظ والمعنى نحو وصفهم للعلة الأزلية بأنها واحدة لا كثرة فيها، ونقضهم لذلك بقولهم إن صور جميع الأشياء كامنة فيها وكل مكمون فيه فالكامن بعضه أو في بعضه وكل ما له بعض فليس بواحد على الحقيقة ولابأزلي.(1/21)
ووصفهم للعقل الكلي بأنه أزلي لأجل أزلية علته، وأنه لا يجوز أن يتوسط العدم بين العلة ومعلولها، ونقضهم لذلك بوصفهم له بالإنفعال منها، والمنفعل لا يعقل كونه منفعلاً إلا إذا كان بعد أن لم يكن، لعدم الفرق بين الفعل والإنفعال في كون كل واحد منهما محدثاً، ووصفهم للعشرة العقول بالتقدم والتأخر، ونقضهم لذلك بقولهم إنها موجودة قبل الزمان والمكان، إذ لا يعقل الفرق بين المتقدم والمتأخر من الأشياء المنفعلة إلا بالوقت والمكان؛ إذ لولا ذلك لما عُلِمَ الفرق بين كون الثاني ثانياً والثالث ثالثاً، ولا بين رتبتيهما ولا انفعالهما، وكل هذه الأدلة مما لا يمكن كل عاقل إنكارها إلا بالمكابرة الدالة على العجز، ولذلك جمع كثير من الغلاة بين اسم الإسلام ومعنى الفلسفة ليتوصلوا بذلك إلى إبطال محكم التنزيل، بما ادعوا من علم التأويل، الذي زعموا أنه علم مكنون مكتوم، فمنهم من لا يُعَلِّمُهُ إلا من أخذ عليه العهد والميثاق، ومنهم من لا يُعَلِّمُهُ إلا من قد قبل منه ما يلقي إليه من المقدمات التي إذا نظر فيها المتعلم أداه النظر فيها إلى ذلك العلم المكتوم، وما أشبه ذلك من الحيل والمكائد التي لا تجوز إلا على من بهر عقله زخرف أقوالهم، وقصر به الشك عن بلوغ درجة اليقين.(1/22)
[قول بعض من جمع بين الفلسفة والإسلام في العقل والنفس وإبطاله]
والقول الثالث: قول بعض من جمع بين الفلسفة والإسلام: إن العقل هو أول مخلوق خلقه الله سبحانه قبل الزمان والمكان، واحتجوا على ذلك بخبر رووه، وهو أن الله سبحانه لما خلق ذلك العقل قال له: أقبل، فأقبل، ثم قال له: أدبر، فأدبر..إلى آخر الخبر.
وهذا الخبر هو من أقرب وأوضح ما يدل على بطلان قولهم، وذلك لأنه لا يخلو: إما أن يكون محمولاً على ظاهره أو متأولاً.
فإن كان محمولاً على ظاهره، وجب القطع على كونه مكذوباً على النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وعلى آله وَسَلَّم - لأجل تناقضه وتضمنه لمعنى التشبيه، وللجهل بالفرق بين صفة العقل وصفة العاقل.
فأما تناقضه؛ فلأن الإدبار بعد الإقبال، والإقبال قبل الإدبار لا يعقل إلا إذا كان بينهما وقت يعرف به التمييز بينهما، وكذلك الإقبال إلى المقبَل إليه والإدبار عنه لا يعقل إلا إذا كان بينهما مسافة، وكان كل واحد منهما في مكان غير مكان الثاني.
فإن قالوا: هو معقول، بطل قولهم بنفي الزمان والمكان، وإن قالوا: هو غير معقول فإثباتهم له عبث.
وأما كونه متضمناً لمعنى التشبيه، فلأن المفهوم من فحوى الأمر بالإقبال والإدبار -هو كون الآمر والمأمور متقابلين، وتقابلهما لا يعقل إلا إذا كان كل واحد منهما في جهةٍ مقابلة لجهة الثاني حتى يقع بصره على ما أقبل به إليه دون ما أدبر به عنه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.(1/23)
وأما تضمنه للجهل بالفرق بين صفة العقل وصفة العاقل؛ فلأن العقل صفة والعاقل موصوف، والصفة حالة، والموصوف محلول فيه، والحال غير المحلول، ولأن المأمور المنهي المميز بين ما أُمر به ونُهي عنه لا يكون إلا عاقلاً بعقل هو غيره، وهذا هو المعقول المعلوم بالمشاهدة، ولأن العقل لو كان يجوز أن يوصف بصفة العاقل لاحتاج كل عقل إلى عقل إلى ما لانهاية له، وذلك محال بالإجماع.
وإن كان ذلك الخبر متأولاً على غير ما يفيده بظاهره؛ لم يكن لهم فيه حجة، وكل دعوى بلا حجة فهي باطلة بالإجماع.
[قول المعتزلة في العقل والرد على ذلك]
والقول الرابع: هو قول المعتزلة: إنّ العقل مجموع عشرة علوم ضرورية، وذلك تكلف منهم وتوهم لما لا طريق لهم إلى معرفة ماهيته وكيفيته، لأجل كون العقل جارياً مجرى السمع والبصر وما أشبههما مما يعلم ولا يتوهم، ومع ذلك فلو صح قولهم لما جاز أن يتفاضل العقلاء في العقل؛ لأجل كون تلك العلوم فيهم بزعمهم على سواء، والمعلوم خلاف ذلك، ولأن العلوم الضرورية أكثر من عشرة، وتخصيصهم لبعض منها دون غيره دعوى مبتدعة لا دليل على صحتها من عقل ولا سمع ولا قال بذلك أحد قبلهم ولا بعدهم إلا من قلدهم بغير دليل.(1/24)
[قول الطبيعية في العقل]
والقول الخامس: قول من زعم من الطبيعية إن العقل في الدماغ واحتجوا بكي الدماغ، والذي يدل على بطلان ذلك ما تقدم ذكره من نصوص الكتاب والسنة على أن العقل في القلب، ولذلك وصف الله سبحانه قلب من لم يستعمل عقله بالعمى، وعماه هو ذهاب بصره، وبصره هو العقل، كما أن عمى العين [هو] ذهاب بصرها، وأما كي الدماغ فأكثر الآلات الباطنة يُكوى لأوجاعها في غيرها من ظاهر الجسم.
[قول المطرفية في العقل وإبطاله]
والقول السادس: قول المطرفية إن العقل هو القلب بناءً على أصلهم الباطل، وهو قولهم: إن صفة الجسم هي الجسم، واحتجوا بقول الله سبحانه: {قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج:46] ، وقوله: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق:37]، والذي يدل على بطلان قولهم إن العقل هو القلب وتحريفهم لمعنى الآيتين: هو عدم المخصص لقلب دون قلب فيلزمهم لأجل ذلك أن يعتقدوا أن الله سبحانه خاطب كل ذي قلب من الحيوانات، ومعلوم خلاف ذلك.
وأما قولهم: إن صفة الجسم هي الجسم؛ فلو صح ذلك للزم أن يكون الجسم الواحد موجوداً معدوماً في حالة واحدة لأجل [جواز] وجود بعض صفاته وعدم بعضها في حالة واحدة، وذلك محال، وكل قول يؤدي إلى المحال فهو محال.(1/25)