وقوله في كتاب التنبيه: (فإن عليكم سؤالنا وعلينا جوابكم، وقد أمركم الله جل اسمه؛ فقال عز من قائل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)} [النحل]، وقد سمى رسوله ذكراً، وفي كل خلف من أهل بيته عدول ينفون عن الله تعالى الشبهات، ويحكمون بآياته البينات، هم حجج الله على خلقه في كل زمان، وهم الهداة إليه في كل أوان.
إلى قوله: لأنا أهل البيت يتعلم بعضنا من بعض، ونجتزي بذلك عن التعلم من غيرنا، ولا يسعنا أن نتعلم من سوانا، إلا ما يجيزه لنا علماؤنا، وأنتم يا شيعتنا فلا يسعكم أن يتعلم بعضكم من بعض إلا ما يجيزه لكم علماء أهل بيت نبيكم - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -).
وقول ابنه الحسين بن القاسم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الفرق بين الأفعال: (فلما قبضه الله إليه، واختار له من الثواب ما لديه، علم أن سيكونُ من عباده من يحتاج إلى الهدى، ويكشف عنهم الضلالة والردى، بذوي الدين والفضل والحجا، ذرية الرسول أئمة الهدى، وأعلام الدين ومصابيح الدجى؛ فكشف عنهم أغطية الضلال، وقمع بهم من عاند الحق من الجهال، فمن طلب الحق عند غيرهم فقد جهل، ومن عاندهم فقد ضل وخذل؛ لأن الله لو علم أن العباد يكتفون بعقولهم، لما فرض الله سؤال آل نبيهم - عَلَيْهم السَّلام -...(1/231)
وقول الإمام المنصور بالله - عَلَيْه السَّلام - في شرح الرسالة الناصحة مع ما تقدم: (وورود الحوض لا يكون إلا لأتباع آل محمد - صلى الله عليه وعليهم وسلم - وهم أشياعهم، ولا يكون ذلك إلا بالإعتراف بفضلهم، ومطابقتهم في قولهم واعتقادهم).
تم الموضع الثاني
[الكلام في الصانع تعالى وما يستحق من الصفات لذاته أو لفعله]
وأما الموضع الثالث
وهو في الكلام في الصانع تعالى وما يستحق من الصفات لذاته أو لفعله
فهو ينقسم على أربعة فصول: الأول: في الذات، والثاني: في صفات الذات، والثالث: في الإرادة، والرابع: في الإدراك.
[الكلام في الذات]
أما الأول:
فمذهب العترة أن قول القائل: ذات الباري، عبارة تفيد الإخبار عنه سبحانه على الجملة، من غير توهم مشاركة ولا مجانسة بينه سبحانه وبين غيره، ومعنى ذلك عندهم كمعنى قوله سبحانه: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28]، وقوله سبحانه: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115]، أي فثم الله بمعنى أنه لا يخفى عليه شيء من أمرهم؛ فذاته سبحانه هي هو، وكذلك نفسه ووجهه، وهو سبحانه ليس بجنس فيوصف بأنه مشارك لغيره...(1/232)
ومذهب بعض المعتزلة أن لفظ ذات اسم جنس يشترك فيه ذات الباري سبحانه، وذوات الجواهر وذوات الأعراض، ولا يقع الفرق بينها إلا بأمور زائدة، ويحتجون على ذلك بما يجمعها من الحد المنطقي الذي زعموا أنه مركب من جنس وفصل، وأنه يجمع ويمنع، وينعكس ويطرد، وهو قولهم حقيقة الذات: هو ما يصح العلم به والخبر عنه بانفراده، واحترزوا بذكر الإنفراد عن الصفات التي زعموا أن الذوات تعلم عليها ولا تعلم بانفرادها.
والذي يدل على صحة مذهب العترة وبطلان مذهب المعتزلة: أمور؛
منها: أنه قد ثبت بأدلة العقل والسمع أن الله سبحانه واحد ليس كمثله شيء، ولا له كفؤ ولا ند ولا شريك، وأنه لا يحاط به علماً، ولا يجوز توهمه، ولا تصوره، ولا تكييفه، ولا قياسه، ولا التفكر فيه، ولا يصح أن يجاب من سأل عن ذاته، بمثل ما يجاب به من سأل عن ذات غيره.
ومنها: أن القول بالمشاركة في الذاتية قول مبدع متكلف ليس بمفروض ولا معقول ولا مسموع، وكل قول مُبْدَع في الدين فهو باطل.
ومنها: أن المشاركة والجنس والنوع من خصائص أوصاف المحدثات التي لا يجوز إضافتها إلى الله سبحانه لما فيها من لزوم التشبيه.
ومنها: أن ذات الباري سبحانه هي نفسه، ونفسه هي هو، ولا يجوز أن يوصف سبحانه بأنه مشارك في نفسه لعدم الفرق بين المشاركة في الذاتية، والمشاركة في النفسية...(1/233)
ومنها: أنه لا فرق في اللغة بين المشاركة في الذاتية، والمماثلة فيها، وقد ثبت بالدليل أنه لا مثل له سبحانه؛ فكذلك يجب أن يكون لا مشارك له.
ومنها: أن لفظ ذات قد يُعبَّر به عن الشيء جملة كما يقال: فعل فلان كذا بذاته أي فعله هو، وقد يعبر به عن محل العرض، فيقال: ذات الجسم وعرضه، وكل لفظ عبر به عن معنيين مختلفين فليس باسم جنس يصح فيه الإشتراك.
ومنها: أن تحديدهم لذات الباري سبحانه بالحد الذي زعموا أنه مركب من جنس وفصل لم يتضمن إلا نفس حكاية مذهبهم الذي ابتدعوه لفظاً ومعنى، ومجرد الحكاية لا تصح أن تكون دليلاً على صحة المحكي؛ فلذلك فإنه ما من دعوى باطلة إلا ويمكن أن تحد بحد مركب من جنس وفصل وذلك بين لمن تأمله.
ومنها: مخالفتهم بذلك للموحدين في معنى التوحيد، ولأهل علم المنطق في شروط علم التحديد، أما مخالفتهم في معنى التوحيد؛ فلأجل وصفهم لله سبحانه بالمشاركة والجنس والفصل الذي يدل على النوع.
وأما مخالفتهم في شروط التحديد؛ فلأن من شرط الحد المركب من جنس وفصل عند الفلاسفة أن يكون المحدود به جنساً يتنوع، وذات الباري سبحانه هي هو، وهو سبحانه واحد ليس بجنس ولا نوع.
ومنها: أنه لا بد لكل ذات عندهم من صفة ذاتية، أو صفات يستحيل خلوها عنها، وذلك ناقض لقولهم في حد الذات إنه يصح العلم بها على انفرادها؛ لأن من أبين المناقضة أن توصف الذات بأنه يصح العلم بها بانفرادها عما يستحيل خلوها عنه...(1/234)
ومنها: أن لفظ ذات لو كان اسم جنس لما جاز أن يقال: إن الله سبحانه ذات لا كالذوات وإنه سبحانه شيء لا كالأشياء؛ كما لم يجز أن يقال كذلك في شيء من أسماء الأجناس؛ مثاله: تناقض قول من يقول محدث لا كالمحدثات، وجسم لا كالأجسام.
ومما يؤيد هذه الجملة من أقوال الأئمة:
قول أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - في خطبته المذكورة في كتاب نهج البلاغة وفي الدرة اليتيمة: (ليس لذاته تكييف، ولا لصفاته تجنيس، احتجب عن العقل كما احتجب عن الأبصار).
وقوله: (واحد لا بعدد، دائم لا بأمد، قائم لا بعمد، ليس بجنس فتعادله الأجناس).
وقوله: (صفته أنه لا مثل له من خلقه، وحليته أنه لا شبيه له من بريته، ومعرفته ألا إحاطة به، والعلم به ألا معدل عنه).
وقول علي بن الحسين زين العابدين - عَلَيْه السَّلام - في توحيده: (فأسماؤه تعبير، وأفعاله تفهيم، وذاته حقيقة، وكنهه تفريق بينه وبين غيره، وغيوره تحديد لما سواه).
وقول جعفر بن محمد الصادق - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الإهليلجة: (من قال الإنسان واحد فهو له اسم وتشبيه، والله واحد وهو له إسم وليس له بتشبيه، وليس المعنى واحداً).
وقول القاسم بن إبراهيم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب المسترشد: (فإن سأل من الجهمية سائل فقال: هل الله شيء؟ قيل له: نعم، الله شيء لا يشبه بالأشياء، الأشياء مشيأة وهو سبحانه شيء لا مشيأ بل الله مشيئ الأشياء لا يشبه ما شيأ، وليس في قولي أنا شيء، والله شيء تشبيه...(1/235)