فإن ادعى بعض المتشيعين أو تأول بأن المشائخ لم يعلموا ما أراد الله تعالى بقوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا...الآية} [المائدة:55]، ولا ما أراد النبي بقوله: ((من كنت مولاه فعلي مولاه)) وقوله: ((الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا، وأبوهما خير منهما)) ونحو ذلك من الآيات والأخبار، لزمه أن يكون باهتاً لهم بما لم يدعوه، ولا ادعاه لهم أحد من أتباعهم؛ لأنهم لا يسلمون أنهم يجهلون خطاب الله تعالى وخطاب رسوله مع كونهم من صميم العرب الذي نزل القرآن بلسانهم، ولا يسلمون أنهم يجهلون ما هو من أهم أصول الدين وفروضه مع كونهم من أفاضل الصحابة.
ومن المعلوم عقلاً وشرعاً أن المعصية تعظم على قدر عظم معرفة من أقدم عليها بما يجب له وعليه، ولا يجتمع لمنصف من المتشيعين أن يعتقد أن النبي -صلى الله عليه وآله- قد بين للمشائخ ما أمره الله بتبليغه إليهم، وأن يعتقد أن المشائخ لم يفهموا بيانه وتقديمه لعلي - عَلَيْه السَّلام - قولاً وفعلاً مع ما في ذلك من إبطال حجة التبليغ والبيان، وإثبات حجة أهل الرفض والعصيان.
ومما يؤيد ذلك: قول أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - في خطبته المعروفة بالموضحة ذات البيان: (إنا أهل البيت قوم شيد الله فوق بناء قريش بناءنا، وأعلى فوق رؤوسهم رؤوسنا، اختارنا دونهم، واصطفانا عليهم بعلمه؛ فنقموا على الله أن اختارنا، فسخطوا ما رضيه، وأحبوا ما كرهه)...(1/226)


وقوله فيما حكي عنه في كتاب نهج البلاغة: (أما والله لقد تقمصها ابن أبي قحافة، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحا).
وقوله فيه: (حتى إذا مضى الأول لسبيله أدلى بها إلى غيري بعده؛ فيا عجباً بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته) وأشباه ذلك مما تقدم ذكر بعضه.
[الإجماع على أن الإمام السابق قائم مقام النبي]
وأما إجماع العترة في المسألة الثالثة: على أن الإمام السابق قائم مقام النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - فيما يجب له وعليه؛ فإنما أجمعوا على ذلك لأجل أن الله سبحانه لم يفرق بين وجوب طاعته وطاعة رسوله، وطاعة أولي الأمر، وأن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أوجب للأئمة من بعده مثل الذي يجب له في قوله: ((قدموهم ولا تَقَدَّموهم، وتعلموا منهم ولا تعلموهم، ولا تخالفوهم فتضلوا، ولا تشتموهم فتكفروا)) ونحو ذلك من الآيات والأخبار.(1/227)


وإذا ثبت ذلك فمدعي التشيع لا يخلو إما أن يلتزمه أو لا يلتزمه؛ فإن لم يلتزمه فليس بشيعي، وإن التزمه لزمه أن يعتقد أنه لا فرق في استحقاق الذم والعقاب بين من خالف النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وبين من خالف الإمام السابق، وأنه كما لا يجوز لمسلم أن يتوصل بنظره واستدلاله إلى مخالفة النبي لكونه متعدياً بنظره واستدلاله، فكذلك لا يجوز له أن يتوصل بنظره واستدلاله إلى مخالفة الإمام، وكما لا يجوز له معارضة النبي في التنزيل؛ فكذلك لا يجوز له معارضة الإمام في التأويل، وكما لا ينفع مؤمناً إيمانه بجميع الأنبياء مع جحده لواحد منهم فكذلك لا ينفعه مع رفضه لإمامٍ واحد، وكما لا يجوز لأحد إنكار فضل النبي وكونه حجة لأجل كونه من جملة البشر المتعبدين، فكذلك لا يجوز إنكار فضل الإمام وكونه حجة لأجل كونه من جملة البشر المتعبدين.
وكما لا يصح ولا ينفع الإقرار بصحة نبوة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- مع اعتزاله أو موالاة من اعتزله؛ فكذلك لا يصح ولا ينفع الإقرار بصحة إمامة الإمام مع اعتزاله أو موالاة من اعتزله.
ومما يؤيد ذلك من أقوال الأئمة - عَلَيْهم السَّلام -:..(1/228)


قول محمد بن القاسم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الشرح والتبيين: (ورأس النجاة لكم، فيما اشتبه عليكم من دينكم، أن لا يقبل بعضكم قول بعض، ولكن ليرجع وليسأل فيما اشتبه عليه من جعله الله معدنه وموضعه من أهل الذكر، قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)} [النحل]، فافهموا يرحمكم الله هذا.
ثم افهموا؛ فأنتم وجميع من له دين وورع ممن يتشيع لا ينبغي أن يسأل بعضكم بعضاً، وإنما ينبغي أن تسألوا من يعلم من آل نبيكم، من هو عالم حجة منهم، يفهم ما يحل وما جعله الله محرماً، ولا يتخذ بعضكم بعضاً أرباباً من دون الله).
وقول الناصر للحق الحسن بن علي - عَلَيْهما السَّلام - في شعره المحكي عنه في المسفر، وفي الشافي:
لا تبتغوا غير آل المصطفى علماً
آل النبي وعنه إرث علمهمُ
وقولهم مسند عن قول جدهمُ
..إلى قوله:
كل يرى الحق ما فيه قد اختلفوا
أعني الأولى فقههم إشراك ضدهم

لهديكمْ فَهُمُ خير الورى آلُ
القائمون بنصح الخلق لم يألوا
عن جبرئيل عن الباري إذا قالوا

وهم بمفروض علم الحق جهالُ
وسائر الناس بالإهمال عقال..(1/229)


وقول المرتضى لدين الله محمد بن يحيى - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الرد على الروافض: (لأن الله سبحانه ختم النبيين بمحمد - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - فلا نبي بعده، ولا مرسل من الله سواه، فلما أن كان ذلك كذلك لم يستغن الخلق عن قائم في كل وقت بأمرهم، حاكم فيهم بكتاب الله، يبين الأحكام، ويوضح الإسلام، فجعل سبحانه القائمين بذلك آل نبيه، وافترض طاعتهم على خلقه، وأمر باتباعهم).
وقوله في جوابه لمن سأله عن حكم من يخالف التنزيل بالتأويل: (وكيف يقر بالتنزيل من جحد ما فيه من الحلال والحرام، والدين والأحكام، ومن أنكر حكماً واحداً من أحكام الله المفترضة كمن أنكر القرآن جميعاً، ومن أنكر صنع الله سبحانه في نملة أو ذباب كمن أنكر صنعه في السماوات والأرضين).
وقول أخيه الناصر لدين الله أحمد بن يحيى - عَلَيْه السَّلام - في كتاب النجاة: (وكذلك المؤمنون بعضهم أعلم من بعض، ولذلك صارت الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - أولى بمقامات الأنبياء من الأمة لما علم الله عندهم من العلم والحكمة، والمعرفة بالكتاب والسنة).
وقول القاسم بن علي - عَلَيْه السَّلام - في كتاب التفريع: (ومن آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، وكفر بذرية محمد - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - ولم يصدق بهم لم يمنع إيمانه من هُلكه إلا أن يكون ممن قد جرت لأوله ذمة من النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله -).(1/230)

46 / 94
ع
En
A+
A-