[الفرق الرابع: باختلاف تأويلهم للكتاب]
والفرق الرابع: باختلاف تأويلهم للكتاب، وذلك لأن الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - هم أهل الكتاب، ولا معنى لكونهم أهلاً له إلا كونهم ورثة لعلمه، وأنهم أعلم الأمة بمحكمه ومتشابهه، ومجمله ومبينه، وخاصه وعامه، وأمره ونهيه، وناسخه ومنسوخه، وإيجابه وحظره، وإباحته وزجره وندبه، ومقدمه ومؤخره، ومجموعه ومفصله، وصريحه وكنايته، وقصصه وأمثاله، ونحو ذلك مما لا يجوز [لأحد] تأويله إلا بعد معرفته ومعرفة كون محكمه أصلاً لتأويل ما عداه، وكل مخالف لهم في ذلك من علماء العامة فإنه مخالف للمحكم ومتعلق بالمتشابه ونحوه مما يوافق هوى نفسه، وأراء شيوخه.(1/216)
[أقوال الأئمة في أنهم أهل التأويل]
ومما يؤيد ذلك: قول القاسم بن إبراهيم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الرد على ابن المقفع: (وكلما ذكره الله في السور فله وجوه متصرفة يعرفها من عرفه الله إياها..إلى قوله: فليسأل عنها، وليطلب ما خفي عليه منها، عند ورثة الكتاب، الذين جعلهم الله معدن ما خفي فيه من الأسباب؛ فإنه يقول سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32)} [فاطر]، ولتكن مسألته منهم للسابقين بالخيرات؛ فإن أولئك أمناء الله على سرائر الخفيات، من منزل وحي كتابه، وما فيه من خفي عجائبه؛ فقد سمعت قول الله سبحانه: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(43)} [النحل].
..(1/217)
وجواب المرتضى لدين الله محمد بن يحيى - عَلَيْه السَّلام - لمن سأله عن الفرق بين تفسير الأئمة والعامة الذي منه قوله: (وفي الحديث الذي ترويه العامة ما لا تقوم به حجة، ولا تتضح به بينة، ولا يشهد له كتاب ولا سنة، وكلما قلنا به، وأجبنا عليه، فشاهده في كتاب الله عز وجل وفي السنة المجمع عليها عن رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - أو حجة من العقل يصدقها الكتاب؛ فكل ما كان من هذا فهو أصح مطلوب، وأنور حجة في القلوب، وليس يجوز تفسيره إلا لأهله، الذين خصهم الله بعلمه، من أهل بيت نبيئه - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -).
[الفرق الخامس: باختلاف علومهم في أصول الفقه وفروعه]
والفرق الخامس: باختلاف علومهم في أصول الفقه وفروعه، وذلك لأن الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - جعلوا محكم الكتاب وموافقه من السنة وقضايا أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - أصولاً يفرعون عنها الأحكام، ويحفظونها عن تحريف علماء العوام، الذين عدلوا عن كثير من النصوص، وعن الإقتداء بأمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - إلى القول بالرأي والإقتداء بالشيوخ.
ومما يؤيد ذلك: ما حكي في كتاب نهج البلاغة عن أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - من وصفه للمحِقّ من العترة، وذمه لمن يخالفه من العامة بقوله الذي منه: (يعطف الهوى على الهدى، إذا عطفوا الهدى على الهوى، ويعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي)...(1/218)
وقول جعفر بن محمد الصادق - عَلَيْه السَّلام - الذي روي أنه قال لأبي حنيفة - وقيل اسمه النعمان بن ثابت لما قدم من العراق إلى المدينة - الذي منه: (اتق الله ولا تقس الدين فإن أول من قاس إبليس إذ أمره الله بالسجود لآدم، فقال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ(12)} [الأعراف].
ثم قال: ويحك أيهما أعظم عند الله عز وجل قتل النفس التي حرم الله أم الزنا؟ قال: [لا]، بل قتل النفس، قال: فإن الله تعالى قد رضي وقبل في قتل النفس شاهدين، ولم يقبل في الزنا إلا أربعة؛ فكيف يقوم لك قياس.
ثم قال: أيهما أعظم عند الله عز وجل الصلاة أم الصوم؟ قال: بل الصلاة، قال: فما بال المرأة إذا حاضت تقضي الصيام ولا تقضي الصلاة؟ اتق الله يا عبد الله ولا تقس فإنا نقف نحن غداً وأنت ومن خالفنا بين يدي الله عز وجل، فنقول: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم، قال الله عز وتعالى، وتقول أنت وأصحابك: سمعنا ورأينا، فيفعل بنا وبكم ما يشاء).(1/219)
[الفرق السادس: باختلاف علومهم على الجملة في الصحة والبيان]
والفرق السادس: باختلاف علومهم على الجملة في الصحة والبيان، وذلك لأن علوم الأئمة - عَلَيْهم السَّلام -، مبنية على أصول صحيحة معلومة، وموضوعة بألفاظ فصيحة مفهومة، سلكوا فيها طريقة العرب في الخطاب بالمجاز، واقتدوا بألفاظ الكتاب والسنة في السجع والإيجاز، وليس كذلك أكثر علوم مخالفيهم من علماء العامة؛ فإنها مبنية على أصول أكثرها مجهولة ومختلفة وموضوعة، بألفاظ أكثرها متكلفة ومزخرفة، سلكوا بها طريقة الفلاسفة، في استعمال الموضوعات المنطقية، والتأصيل للمقدمات المغلطة الاصطلاحية، والتفريع عنها بالقياسات المبدعة الوهمية، التي تميل إلى سماعها النفوس، وتنفر عن مغالطها العقول.
ومما ينبه على معرفة الفرق بين الأئمة والعامة من الكتاب قول الله سبحانه: {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(35)} [يونس].
ذكر الحاكم رحمه الله في كتاب تنبيه الغافلين: أن المراد بالهادي في هذه الآية أمير المؤمنين -عَلَيْه السَّلام- واحتج بقول الله سبحانه: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ(7)} [الرعد]، وبأخبار رواها في معنى ذلك، وقد ذكر الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - أن هذه الآية تدل على أن لكل قوم في عصرٍ هادياً من العترة - عَلَيْهم السَّلام -.(1/220)