وإذا ثبت ذلك فمخالفهم في علوم الدين ليس بعالم على الحقيقة فضلاً عن أن يكون مثلهم في العلم، أو أعلم منهم.
ومما يؤيد ذلك وينبه على ما عداه من أقوال الأئمة:
قول زيد بن علي - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الصفوة: (فليس كل العباد أصفياء الله، ولكن الله يصطفي منهم من يشاء، وقال عز وجل: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:75]، وإنما فضلت نعم الله بين الناس من غير حول أحد منهم ولا قوة؛ بل منٌّ من الله ونعمة وفضل يختص به من يشاء؛ فكنا أهل البيت ممن خصه الله بنعمته وفضله).
وقول الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين - عَلَيْه السَّلام - في جوابه لأهل صنعاء: (وإني متمسك بأهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة ومهبط الوحي، ومعدن العلم، وأهل الذكر، الذين بهم وحد الرحمن، وفي بيتهم نزل القرآن والفرقان، ولديهم التأويل والبيان، وبمفاتيح منطقهم نطق كل إنسان، ولذلك حث عليهم رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله - بقوله: ((إني تارك فيكم الثقلين لن يفترقا حتى يردا علي الحوض: كتاب الله وعترتي أهل بيتي مثلهم فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى))).
وقول الإمام السيد المؤيد بالله أحمد بن الحسين الهاروني - عَلَيْه السَّلام - في أول كتاب البلغة: (وصلى الله على النبي المجتبى، محمد المصطفى، وآله الطاهرين الذين جعلهم الله معادن وحيه، وحفظة علمه، ورعاة دينه)...(1/211)
وقول الإمام أبي الفتح بن الحسين الديلمي (عَلَيْه السَّلام) في تفسيره لقول الله سبحانه: {نُورٌ عَلَى نُورٍ} [النور:35]، (أراد أن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - من نسل إبراهيم -عَلَيْه السَّلام- والحسن والحسين من نسله، والأئمة الهداة من نسلهما).
وقوله في تفسيره لقول الله سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور:55]، (هذه الآية نزلت في رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - وأمير المؤمنين علي - عَلَيْه السَّلام - وخيار أهل بيتهما، ومن سار بسيرتهما، وتبع طريقتهما، إلى يوم القيامة لأنهم ورثة الكتاب والعالمون به، ولهم الخلافة في الأرض، إلى يوم العرض).
وقوله في تفسيره لقول الله سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا...الآية} [فاطر:32]، (هذه الآية خاصة في رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله- وخيار أهل بيته، من كان منهم علىطريقته، ومتبعاً لسنته؛ فإن الله اصطفاهم لوراثة الكتاب، وائتمنهم عليه، وحكم لهم به)...(1/212)
[الفرق الثاني: اختلاف قصودهم]
والفرق الثاني: باختلاف قصودهم، وذلك لأن الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - لم يقصدوا بما وضعوا من العلوم في الدين إلا أداء ما أوجب الله عليهم من هداية الأمة، بخلاف قصد من خالفهم في ذلك من علماء العامة؛ فإن وضعهم للخلاف الذي سموه علماً تكلف منهم وتعاط يدل على أنهم قصدوا به الفساد وإن أظهروا أنهم قصدوا به الصلاح.
ومما يؤيد ذلك: قول القاسم بن إبراهيم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب الرد على ابن المقفع بعد ذكره لما اشتبه على أهل القول بالظلمة والنور لأجل اغترارهم بعلماء العامة وتركهم لطلب العلم من أهله؛ فلما عموا عن حكمة الله في ذلك ورسله، وما حكم به سبحانه من أحكام عدله.
..إلى قوله: ولم يلقوا فيما اشتبه عليهم منه من جعلهم الله معدنه فيكشفوا لهم الأغطية عن محكم نوره، ويظهروا لهم الأخفية من مشتبه أموره، الذين جعلهم الله الأمناء عليها، ومنَّ عليهم بأن جعلهم الأئمة فيها، ولم يجدوا عند علماء هذه العامة فيما اشتبه عليهم منه شفاء، ولم يرجوا منهم في مسألة لو كانت لهم عنه اكتفاء، ازدادوا بذلك إلى حيرتهم فيه حيرة، ولم تفدهم أقوال العلماء فيه بصيرة).(1/213)
[الفرق الثالث: اختلاف علومهم فيما طريق معرفته النظر والإستدلال]
والفرق الثالث: باختلاف علومهم فيما طريق معرفته النظر والاستدلال، وذلك لأن الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - مخصوصون من زكاءِ العقل، وذكاء الفطنة، وخصائص التوفيق، ومواد التأييد، بحسب ما خصوا به من التكليف بالقيام مقام النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - في هداية العباد، إلى طريق الرشاد، وحفظ علوم الدين، عن تلبيسات الملحدين، وتحريفات المعاندين، بخلاف مخالفيهم من علماء العامة فإنهم لأجل مخالفتهم لأئمتهم، وسلوكهم لغير طريقهم، من جملة الضالين المتحيرين، السالكين لغير سبيل المؤمنين، الذين جمعوا بين اسم العقل ومعنى الجهل، وخاضوا بالوهم فيما وراء حد العقل.
ومما يؤيد ذلك: قول زيد بن علي - عَلَيْه السَّلام - في رسالته إلى علماء الأمصار: (فنحن أعلم الأمة بالله، وأوعى الخلق للحكمة، وعلينا نزل القرآن، وفينا كان يهبط جبريل - عَلَيْه السَّلام -، ومن عندنا اقتبس الخير؛ فمن علم خيراً فمنا اقتبسه، ومن قال خيراً فنحن أصله، ونحن أهل المعروف، ونحن الناهون عن المنكر، ونحن الحافظون لحدود الله).
..(1/214)
وقول الحسين بن القاسم - عَلَيْه السَّلام - في كتاب التوفيق والتسديد: (وسألت عن العقول هل هي مستوية أم بينها اختلاف؟..إلى قوله: فأفضل العقول عقول الملائكة الأكرمين، ثم عقول الأنبياء أكمل من عقول الأوصياء، ثم الأوصياء أكمل من الأئمة في العقول، وأفضل في الإعتقاد والقول، ثم للسابقين من الفضيلة على المقتصدين؛ كمثل فضيلة الأنبياء على الوصيين، وللأئمة المقتصدين من الفضل ما لا يكون لفضلاء المؤمنين، وأفضل الناس كلهم فضلاً، وأكملهم ديناً وعقلاً، محمد خاتم النبيين - صلوات الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين -).
وقوله في كتاب نبأ الحكمة: (وجميع العقول مفتقرة إلى عقول الأئمة - عَلَيْهم السَّلام -، ولولا ذلك لما احتاج أحد إلى إمام، ولسقط فرض الإمامة عن جميع الأنام).(1/215)