فإذا تمكن المتمكن في علمه، وأحاط بجميع ما تحتاج إليه الأمة في دينها، ثم فرع فيها للأمة ما لا غنى بالأمة عن معرفته في جميع أسبابها، من حلالها وحرامها، وما جعله الله ديناً لها، وافترضه سبحانه عليها؛ فإذا فرغ من علوم الدين، وأحاط بمعرفة ما افترض الله على المسلمين، فكان بذلك كله عارفاً، ومن الجهل بشيء منه سالماً.
ثم كان من بعد ذلك ذا لب رصين، ودين ثابت متين، جاز له القياس في الدين، وأمكنه الحكم في ذلك وبه بين المؤمنين، وكان حقيقاً بالصواب، حرياً بإتقان الجواب.
إلى قوله: ثم اعلم أيها السائل علماً يقيناً، وافهم فهماً ثابتاً متيناً، أن العلماء تتفاضل في علمها، وتتفاوت في قياسها وفهمها، وفيما قلنا به من ذلك؛ يقول الله سبحانه: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ(76)} [يوسف]، وإنه ليس أحد من المخلوقين، أولى بفهم أحكام رب العالمين، ممن اختاره الله واصطفاه، وانتجبه وارتضاه)...(1/196)


وقول الناصر للحق الحسن بن علي - عَلَيْهما السَّلام - فيما حكى عنه مصنف المسفر: (ولله أدلة على الحوادث على المكلف إصابتها التي الأمة فيها سواء، فأما سوى هذه الأصول من الأحكام في الحوادث النازلة التي يسوغ فيها الإجتهاد إذ لا نص فيها من كتاب ولا سنة، ولا إجماع من الأمة والأئمة؛ فالإجتهاد فيها إلى علماء آل الرسول - عَلَيْهم السَّلام - دون غيرهم لقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، ولقوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ..الآية} [النساء:83].
وقول الإمام المنصور بالله عبدالله بن حمزة - عَلَيْه السَّلام -، في الرسالة الناصحة للإخوان: (وما ذكر الناصر - عَلَيْه السَّلام - من أن الإجتهاد جائز فيما لا نص فيه؛ فذلك ثابت عندنا فيما لا نص فيه، ولا استدلال بنص ولا ما يجري مجراه، ولا ما يتبعه من القياس على النص، وبعد ذلك يصح الإجتهاد لمن جمع شروط الإجتهاد، وهو أن يكون عالماً بخطاب الله تعالى، وخطاب رسوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -، وأقسام الخطاب، وأحكامه، وما يجوز عليه تعالى في الخطاب، وما لا يجوز، وما يجوز أن يفعله، وما لا يجوز أن يفعله، وما يتبع ذلك من الأخبار والأفعال، والإجماع والقياس...(1/197)


ويشتمل هذا على الأوامر والنواهي، والعموم والخصوص، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، والمحكم والمتشابه، والأخبار والأفعال، والإجماع والقياس، وأدلتها وأحكامها، وعلل ما يجب تعليله منها، وكيفية الإستدلال بها، وما يتبع كيفية الإستدلال؛ على ما ذلك مقرر في مواضعه من أصول الفقه.
وأهل البيت - عَلَيْهم السَّلام - أحق بذلك؛ لأن الرجوع إليهم واجب بما ظهر من الأدلة بما قدمنا، ولأن اتباع آحادهم من العلماء تكون النفس إليه أسكن، والظن لإصابته أغلب، والدليل على وجوب اتباع الإمام منهم قائم، وهو الأمر بطاعته في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ } [النساء:59]، وأولوا الأمر هم الأئمة - عَلَيْهم السَّلام -.
وقال تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} [النساء:83]، والطاعة تشمل ذلك، وقد أمرنا بالرد إليهم، والأمر يقتضي الوجوب، ولأن قضاياه أحكام وقضايا غيره فتاوى، والحكم يسقط الفتوى؛ فإن كان وقت فترة فاتباع عالمهم أولى.
[ذكر جملة مما يعتذر به من جمع بين التشيع والإعتزال]
وأما الفصل الثامن
وهو في ذكر جملة مما يعتذر به من جمع بين التشيع والإعتزال
فالغرض التنبيه -بذكر بعضها وبيان بطلانه- على خدعهم بإظهار التشيع لمن لم يكن ليدخل معهم في مذهب الإعتزال لولا خدعهم له بذلك.(1/198)


فمما ينبه من ذلك على أشباهه: إيهامهم أنهم لم يجدوا للأئمة في أصول الدين وأصول الفقه من العلم مثل الذي وجدوا للمعتزلة في الدقة والكثرة والبيان، وأنهم لم يتبعوهم في ذلك إلا من طريق النظر والإستدلال لا من طريق التقليد، وأنهم لو اكتفوا في ذلك بعلوم الأئمة للزمهم أن يكونوا مقلدين ومفرطين.
واعتذارهم للأئمة فيما نسبوه إليهم من التقصير، بأنهم قنعوا بالجمل واشتغلوا بالجهاد، وقولهم: إن المعتزلة شيوخ لكثير من الأئمة في العلم، وقول بعضهم: إن لفظة الإعتزال ما ورد في الكتاب والسنة إلا صفة مدح، ومعارضتهم لآيات الإحباط بآيات الموازنة، ليوهموا أن خلاف المعتزلة في الإمامة هين في جنب ما وضعوا من العلوم في العدل والتوحيد، وكل ذلك منهم غلاط، وإخبار بما لا صحة لأكثره.
أما إيهامهم أنهم لم يجدوا للأئمة في الأصولين مثل الذي وجدوا للمعتزلة؛ فلو وقفوا على كتب الأئمة وعقلوا ما فيها لعلموا أن الذم للمعتزلة في اتباعهم لغير ما في الكتاب والسنة، وفي كتب الأئمة أولى من مدحهم لأجل إتيانهم بما لا يعقل، وبما يعلم كونه محالاً على ما يأتي بيانه إن شاء الله سبحانه.
وليس أحد من العلماء المخالفين إلا وفي كتبهم من البدع ما لا يوجد للأئمة مثله؛ فلا معنى لتخصيص المعتزلة بما خالفوا به الأئمة لأجل تسميتهم له علماً.(1/199)


وأما إيهامهم أنهم لم يتبعوهم في ذلك إلا من طريق النظر والإستدلال لا من طريق التقليد؛ فخلاف ذلك ظاهر؛ لأنهم إن زعموا أنهم نظروا واستدلوا على صحة علوم المعتزلة قبل تعلمهم فيها فذلك محال؛ إذ لا طريق لهم إلى ذلك إلا إخبار الغير لهم عنه.
وإن زعموا أنهم نظروا في صحتها، واستدلوا بعد تعلمهم فيها؛ فقد قلدوا من علّمهم في بدء أمرهم، وفي حال اتباعهم له حتى أدخلهم في مذهبه.
وأما إيهامهم أنهم لو اكتفوا بعلوم الأئمة للزمهم التقليد والتفريط؛ فغلاطهم في ذلك بين؛ لأن الأئمة - عَلَيْهم السَّلام - لا يعلمون من اتبعهم إلا في معقولٍ بينةٍ أدلتُهُ، أو مسموعٍ منصوصٍ عليه، أو فيما يجب رده إليهم، كما يجب رده إلى الرسول؛ لأن الله سبحانه قد أخبر أنهم لو ردوه إليهم لعلموه، وذلك يعم كل مختلف فيه معقولاً كان أو مسموعاً؛ لأن الله سبحانه أدخل حرف من الذي هو للتبعيض على اسم شيء الذي هو أعم النكرات في قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:10]، فوجب أن يستغرق لكونه عموماً لا مخصص له، وحكم الله سبحانه في كل مختلف فيه أن يرد إلى الكتاب أو السنة إن عدم في الكتاب، أو إلى أولي الأمر إن عدم في السنة على ما تقدم ذكره.(1/200)

40 / 94
ع
En
A+
A-