وشاهد ذلك: قول الهادي إلى الحق - عَلَيْه السَّلام - في باب بيع أمهات الأولاد من كتاب الأحكام: (فأما ما يرويه همج الناس عن أمير المؤمنين من إطلاق بيعهن؛ فذلك ما لا يصدق به عليه، ولا يقول به من عرفه فيه.
وفي ذلك: ما حدثني أبي عن أبيه أنه سئل عن بيع أمهات الأولاد؛ فقال: لا يجوز ذلك فيهن، ولا يحكم به عليهن.
وأما ما يرويه أهل الجهل عن أمير المؤمنين؛ فلا نقبل ذلك منهم ولا نصدق به عليه).
[رواية المعتزلة عن النبي (ص) أنه أذن لمعاذ أن يجتهد رأيه والجواب عن ذلك]
وأما روايتهم عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - أنه أذن لمعاذ أن يجتهد رأيه، فأصلوه ليتوصلوا به إلى معارضة ما يجب من سؤال أهل الذكر، والرد إلى أولي الأمر، والحجة فيه عليهم لا لهم؛ لأنه إذا صح فإنما جاز لمعاذ بشروط لم يوجد مثلها لأحد من المعتزلة، وهي إذن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - لمعاذ في ذلك، وكونه عالماً بأحكام الكتاب والسنة التي لا يجوز الإجتهاد إلا بعد عدمها، وكون علمه بذلك سماعاً له عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - ولا مخالف له في تأويلها، وكون معاذ في تلك الحال موافقاً لأهل الحق، وكون اجتهاده فيما حدث دون ما سيحدث، وفي حال بُعْدِه عمن يجب عليه سؤاله والرد إليه، وبَعْدَ عدمه للحكم في الكتاب والسنة، وكونه في حكم المضطر إلى أن يجتهد.(1/191)


[رواية المعتزلة عن النبي (ص) أنه قال: ((كل مجتهد مصيب)) والجواب على ذلك]
وأما روايتهم عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه قال: ((كل مجتهد مصيب)) فأصلوه ليتوصلوا به إلى تصويب مشائخهم؛ فيما أداهم إليه الإجتهاد والرأي من البدع؛ نحو اجتهاد أهل السقيفة في أن يجعلوا الإمامة في أبي بكر، واجتهاد أبي بكر في أن ينزع فدكاً من أهلها وأن يجعل الإمامة في عمر، واجتهاد عمر في أن ينقص من الأذان ما هو منه، ويزيد فيه ما ليس منه، وأن يثبت صلاة التراويح، وأن يجعل الإمامة شورى في ستة، واجتهاد عثمان في أن يؤوي طريد رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله -، ويؤثره وأشباهه بما جعله الله ورسوله لكافة المسلمين، وما أشبه ذلك من اجتهاداتهم، واجتهادات أتباعهم، من أئمة الضلال وعلماء السوء.
ومما يمكن أن يجابوا به: أن يقال: إن ذلك الخبر لا يخلو إما أن يحمل على ظاهره؛ فيلزم من ذلك أن يكون ناسخاً لأكثر نصوص الكتاب والسنة، وأن لا يخطأ أحد من جميع ما أداه اجتهاده إلى تحليل ما حرم الله سبحانه، وذلك باطل بالإجماع.
وإما أن يكون متأولاً؛ فيبطل احتجاج المعتزلة به، ويجب أن يتأول على ما يوافق الحق والمحقين.
[أقسام الإجتهاد]
وبيان ذلك: أن الإجتهاد ينقسم؛ فمنه ما يجب أن يرجع فيه إلى الإستنباط من غامض علم الكتاب والسنة لا إلى الظن، وذلك هو الذي أمر الله سبحانه برده إلى أولي الأمر، وهم الأئمة السابقون.(1/192)


وإنما وجب رده إليهم لأنه لا يجتهد فيه إلا بعد عدم الدليل الظاهر عليه في الكتاب والسنة، ولا يعدمه إلا من أحاط بعلم أحكامهما، ولا يحيط بعلمهما إلا السابق بالخيرات من أهلهما وورثتهما، ولأن من شرط من يصلح للإجتهاد عند الجميع أن يكون عالماً بخطاب الله سبحانه، وخطاب رسوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -، وكيفية الإستدلال بذلك.
ومن جملة خطاب الله وخطاب رسوله، ما تقدم ذكر بعضه من نصوص الكتاب والسنة الدالة على حصر الإمامة، وقد خالفت فيها المعتزلة؛ فيلزم أن يكونوا جاهلين ببعض خطاب الله وخطاب رسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، وقد أجمعوا على أن من جهل شيئاً من ذلك؛ لم يصح اجتهاده ولا تسميته بالفقيه حقيقة.
ومن الإجتهاد ما يرجع فيه إلى الإقتداء بظواهر النصوص واعتبار الأحوال، وذلك نحو ما يرد إلى الحكام من تقدير النفقات وأروش الجنايات، ونحو ما يرد إلى حكم ذوي عدل في تقويم جزاء ما يستهلك من الصيد المُحَرَّمِ، وكذلك ما يرد إلى حكم الحكمين، المبعوثين من أهل الزوجين، كما أمر الله سبحانه.
ومن الاجتهاد ما لا يقوم فيه أحد مقام أحد، نحو تحري جهة الكعبة، ووقت الصلاة إذا أشكل، وهذا وما أشبهه خاصة هو الذي يصح أن يقال فيه على الإطلاق: إن كل مجتهد مصيب(1/193)


[ذكر أقوال الأئمة (ع) في ذم من يقول في الدين بالرأي]
ومما يؤيد هذه الجملة من أقوال الأئمة في ذم من يقول في الدين بالرأي، ويعارض الأئمة في الإجتهاد:
قول أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - فيما حكي عنه في كتاب نهج البلاغة: (إن أبغض الخلائق إلى الله رجلان: رجل وكله الله إلى نفسه، فهو جائر عن قصد السبيل مشغوف بكلام بدعة، ودعاء ضلالة؛ فهو فتنة لمن افتتن به، ضال عن هدي من كان قبله، مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته، حمال خطايا غيره، رهن بخطيئته.
ورجل قمش جهلاً موضع في جهال الأمة، عادٍ في أغباش الفتنة، عم بما في عقد الهدنة، قد سماه أشباه الناس عالماً وليس به)
إلى قوله -عَلَيْه السَّلام-: (فإن نزلت به إحدى المبهمات هيأ لها حشواً رثاً من رأيه، ثم قطع به، فهو من لبس الشبهات، في مثل نسج العنكبوت، لا يدري أصاب أم أخطأ، إن أصاب خاف أن يكون قد أخطأ، وإن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب، جاهل خباط جهالات، عاشٍ ركاب عشوات، لم يعض على العلم بضرس قاطع، يَذْري الروايات إذراء الريح الهشيم، لا مليء والله بإصدار ما ورد عليه، ولا هو أهل لما فوض إليه، لا يحسب العلم في شيء مما أنكره، ولا يرى أن وراء ما بلغ منه مذهباً لغيره، وإن أظلم عليه أمره اكتتم به، لما يعلم من جهل نفسه).
وقوله -عَلَيْه السَّلام-: (وآخر قد تسمى عالماً وليس بعالم، فاقتبس جهائل من جهال، وأضاليل من ضلال، ونصب للناس أشراكاً من حبائل غرور، وقول زور، وقد حمل الكتاب على آرائه، وعطف الحق على أهوائه، يُؤَمِّنُ من العظائم، ويهون كبير الجرائم، يقول: أقف عند الشبهات وفيها وقع، ويقول: أعتزل البدع وفيها اضطجع).
..(1/194)


وقول محمد بن القاسم - عَلَيْهما السَّلام - في كتاب شرح دعائم الإيمان: (فأهل غائص الفهم الذين لا يتكلفون النطق فيه، ولا يسألون عما لم يقع؛ فإذا وقع لزمهم النظر فيه، فوجدوه في الكتاب والسنة، والأدلة القائمة، ولم يقولوا في دين الله وأحكامه وشرائعه برأيهم وقياسهم، بل يغوصون عليه بغائص فهمهم، حتى يخرجوه من الكتاب والسنة والأدلة القائمة.
كما روي ذلك عن علي - صلوات الله عليه- حين أراد عمر أن يرجم امرأة أتت بولد لستة أشهر؛ فقال: (إن خاصمتكم بكتاب الله خصمتكم، قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف:15]، فخلا عمر سبيلها).
وقول الهادي إلى الحق - عَلَيْه السَّلام - في كتاب القياس: (والقياس فلا يجوز أبداً ولا يكون بحيلة من الحيل، ولا يمكن أن يتناوله متناول، ولا يطول إليه متطاول، ولا يطمع فيه طامع إلا من بعد إحكام أصول العلم بالكتاب، والوقوف على ما فيه من جميع الأسباب، من الحلال والحرام، وما جعل الله فيه من الأحكام، وبين عز وجل من شرائع الإسلام، التي جعلها الله سبحانه للدين قواماً، وللمسلمين إماماً، ومن بَعْدُ علم أصول السنة، وفهم فروعها المتفرعة...(1/195)

39 / 94
ع
En
A+
A-