فبأي هؤلاء يقتدي المقتدي؟ وأين فضل الصحابة من فضل القرابة؟ وما المانع من أن يكون لأهل السقيفة أسوة بقوم موسى - صلى الله عليه - في فعلهم ومعصيتهم لولي أمرهم، وخليفة نبيهم فيهم، كما أن لأمير المؤمنين –عَلَيْه السَّلام- أسوة بهارون - عَلَيْه السَّلام -.
[حكاية تظلُّم أمير المؤمنين(ع) وتشكيه من أهل السقيفة]
ومما يؤيد هذه الجملة من كلام أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام -:
قوله في كتاب المحن: (فلم أشعر بعد قبض رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - إلا برجال من بعث أسامة وعسكره، قد تركوا مراكزهم، وأخلوا مواضعهم، وخالفوا أمر رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - فيما أنهضهم فيه، وأمرهم به، وتقدم إليهم فيه من ملازمة أميرهم والمسير معه وتحت لوائه حتى ينفذ لوجهه الذي وجهه له، وخلفوا أميرهم مقيماً في عسكره؛ فأقبلوا يتبادرون على الخيل ركضاً إلى عقد عقده الله ورسوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - لي في أعناقهم، وعهد عهده الله لي إليهم ورسوله فنكثوه وعقدوا لأنفسهم).
وقوله المحكي في كتاب نهج البلاغة: (حتى إذا قبض رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله - رجع قوم على الأعقاب، وغالتهم السبل، واتكلوا على الولائج، ووصلوا غير الرحم، وهجروا النسب الذي أمروا بمودته، ونقلوا البناء عن أرض أساسه، فبنوه في غير موضعه).(1/186)
وقوله: (اللهم إني استعديك على قريش؛ فإنهم قطعوا رحمي، وأكفأوا إنائي، وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت أولى به من غيري، وقالوا ألا إن في الحق أن نأخذه وفي الحق أن نُمْنَعَه، فاصبر مغموماً أو مت متأسفاً؛ فنظرت فإذا ليس لي رافد ولا ذاب ولا مساعد إلا أهل بيتي؛ فظننت بهم عن المنية).
وقوله في خطبته المعروفة بالموضحة ذات البيان: (فاجتدع المسلمون ثمَّ سبقي، واقتطعوني دون حقي، التيمي منهم ثم العدوي، احتيالاً واغتيالاً إلى قوله بعد ذكره للمواقف التي لم يسبق إليها أهل السبق إلى السقيفة معرضاً لهم بقول الله سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ(15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(16)} [الأنفال]، ثم قال - عَلَيْه السَّلام -: (فاغضبوا رحمكم الله على من غضب الله عليه).
وروى فيها بعد ذلك عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه قال: ((ترفع لي يوم القيامة ريح سوداء تخطف من دوني أقواماً ممن صحبتهم وصحبوني من عظماء أصحابي من المهاجرين والأنصار؛ فأقول: يا رب أصحابي؛ فيقال: يا أحمد إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى)).(1/187)
[ذكر معارضة المعتزلة لما أوجب الله سبحانه من سؤال أهل الذكر من العترة]
الخامسة: معارضتهم لما أوجب الله سبحانه من سؤال أهل الذكر من العترة، والرد إلى أولي الأمر منهم بادعائهم أن كل عالم منهم متعبد بنظره واجتهاده، واحتجاجهم على ذلك بروايتهم عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه قال: ((العلماء ورثة الأنبياء)).
وبحكايتهم عن أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - أنه كان يرى جواز بيع أمهات الأولاد في أحد قوليه، وأن عَبيدة السلماني قال له: (رأيك يا أمير المؤمنين في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك).
وبروايتهم أن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - أذن لمعاذ حين بعثه إلى اليمن أن يجتهد رأيه إذا عدم الحكم في الكتاب والسنة، وأنه قال - صَلَّى الله عَلَيْه وآله -: ((كل مجتهد مصيب)).
[احتجاج المعتزلة بقوله(ص): ((العلماء ورثة الأنبياء)) والجواب عن ذلك]
فأما احتجاجهم بقوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله -: ((العلماء ورثة الأنبياء)) فإنما أصلوا ذلك ليتوصلوا به إلى أن يجعلوا أنفسهم من ورثته - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - خلافاً للعترة.
ومما يمكن أن يجاب به عن ذلك: أن يقال: إن قوله: ((العلماء ورثة الأنبياء)) لا يخلو إما أن يريد به علماء كل فرقة مع اختلافهم، أو يريد به علماء الفرقة الناجية، ولا يجوز أن يريد به علماء كل فرقة لوجهين:(1/188)
أحدهما: أن في تجويز نجاة علماء كل فرقة رد ما أخبر الله تعالى به من ضلال كثير من الأحبار والرهبان.
والثاني: ما في ذلك من تجويز أن يكون الله سبحانه أمر المختلفين بسؤال المختلفين، وكل ذلك باطل، وفي بطلانه دليل على أن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - لم يرد بذلك إلا علماء الفرقة الناجية.
وإذا ثبت بأدلة الكتاب والسنة أن العترة ومن شايعهم هم الفرقة الناجية لزم من أنكر ذلك بعد معرفته له بقلبه، وإن أنكره بلسانه أن يكون كاتماً لما أنزل الله من البيان فيهم، وقد قال سبحانه [وتعالى]: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ(159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا...الآية} [البقرة].
وشاهد هذه الجملة: ما روي من ذم زيد بن علي - عَلَيْه السَّلام - لعلماء الفرق في رسالته التي منها قوله: (عباد الله: إن الظالمين قد استحلوا دماءنا، وأخافونا في ديارنا، وقد اتخذوا خذلانكم حجة علينا، فيما كرهوه من دعوتنا، وفيما سفهوه من حقنا، وفيما أنكروه من فضلنا.(1/189)
عباد الله: فأنتم شركاؤهم في دمائنا، وأعوانهم على ظلمنا، فكل مال لله أنفقوه، وكل جمع جمعوه، وكل سيف شحذوه، وكل عدل تركوه، وكل جور ركبوه، وكل ذمة لله أخفروها، وكل مسلم أذلوه، وكل كتاب نبذوه، وكل حكم لله عطلوه، وكل عهد لله نقضوه؛ فأنتم المعاونون لهم بالسكوت عن نهيهم عن السوء.
عباد الله: إن الأحبار والرهبان من كل أمة مسؤلون عما استحفظوا عليه؛ فأعدوا جواباً لله سبحانه عن سؤاله).
[حكاية المعتزلة أن أمير المؤمنين(ع) كان يرى بالرأي ويجوز بيع أمهات الأولاد والجواب على ذلك]
وأما حكايتهم عن أمير المؤمنين عَلَيْه السَّلام: أنه كان يرى بالرأي، وبجواز بيع أمهات الأولاد؛ فأصَّلوه ليتوصلوا به إلى دعوى كونه - عَلَيْه السَّلام - مجمعاً معهم على القول بالرأي، وإلى تجويز مخالفتهم لرأيه فيما خالفهم فيه.
والجواب: أن ذلك غير صحيح عن أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام -؛ لأن تحريم بيع أمهات الأولاد ثابت بقول النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - لأم ولدهِ: ((أعتقها ولدها))، وذلك نص لا يجوز أن ينسب إلى أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام -، أنه يجهله ولا أنه يخالفه برأيه.
وأما حكايتهم عن عَبِيدة أنه لا يحب من رأي أمير المؤمنين إلا ما وافق هواه ففي ذلك -مع كونه غير صحيح- دليل على أن من يفعل ذلك رافض أو مشك.(1/190)