قيل له: باب المحنة والإختبار، وما أراد الله سبحانه أن يكون في عباده من الأخيار، وما فرض عليهم من معرفة الحق واقتباسه من أهله، والوقوف عن الباطل والرفض له بعد معرفته؛ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ(42)} [الأنفال].
[ذكر معارضة المعتزلة لما تستدل به العترة من الأخبار في مسألة الإمامة والجواب عن ذلك]
الثانية: معارضتهم لما تستدل به العترة من الأخبار بقولهم في المجمع عليه منها: إنه متأول كالآيات، وفيما عداه إنه أخبار آحاد لا يوصل إلى العلم.
ومما يجاب به عن ذلك: أن يقال: إن الذي يدل على صحة الخبر وعلى معناه هو كونه موافقاً لمعنى المحكم من الكتاب إذا عرض عليه كما أمر النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - وإذا كان الكلام في الخبر فرعاً على الكلام في المحكم الذي خالفت المعتزلة في كونه محكماً فلا وجه للكلام معهم في الخبر إلا على سبيل الإلزام بأن يقال: قد ثبت بما تقدم ذكر بعضه من الأدلة أن العترة أهل الكتاب وورثته وأهل النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- وذريته، وأنهم لأجل ذلك أعلم الأمة بالكتاب والسنة، وإذا ثبت ذلك علم على الجملة أن كل معارض لهم فيهما رافض، وأن معارضة كل رافض باطلة.(1/181)
[ذكر تقسيم أمير المؤمنين (ع) لرجال الحديث]
ويؤيد ذلك: ما حكي في كتاب نهج البلاغة عن أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - أنه قال: (رجال الحديث أربعة: الأول: منافق يتعمد الكذب؛ وظاهره أنه صاحب لرسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وهو ممن وصفه الله بما وصف وبقي بعد النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- يتقرب بالكذب إلى أئمة الضلال، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله.
والثاني: رجل سمع ولم يحفظ بل توهم.
والثالث: رجل سمع شيئاً ثم نُهِي عنه، ولم يعلم بنسخه.
والرابع: رجل سمع من الكلام ما له وجهان ولم يعلم أيهما عنى النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - وليس كل أصحاب رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - كان يسأله ويستفهمه، حتى إن كانوا ليحبون أن يجيء الإعرابي أو الطارئ فيسأله حتى يسمعوه، وكان لا يمر بي من ذلك شيء إلا سألت عنه وحفظته).
وقال - عَلَيْه السَّلام -: (تالله لقد عَلِمتُ بتبليغ الرسالات وإتمام العدات، وتمام الكلمات، وعندنا أهل البيت أبواب الحكم، وضياء الأمر).
[ذكر معارضة المعتزلة لما تستدل به العترة في مسألة الإمامة من إجماعهم على دعواهم للنص والحصر والجواب عن ذلك]
الثالثة: معارضتهم للإستدلال بإجماع العترة على دعواهم للنص والحصر بقولهم: إن ذلك مثل شهادة الجارِّ للنفع إلى نفسه.(1/182)
ومما يجاب به عن ذلك: أن الذي دل على كون إجماع العترة حجة؛ هو إخبار الله سبحانه في كتابه وعلى لسان نبيه بأنه اختارهم من خلقه، واصفطاهم لإرث كتابه، وللجهاد فيه حق جهاده، وللشهادة له على عباده، وأمرهم بمودتهم وطاعتهم، وسؤالهم والرد إليهم، وجعله لطاعتهم مقرونةً بطاعته؛ فدل بذلك على عصمة جماعتهم، وعدالة أئمتهم، وكل من أوجب الله ذلك له فقوله حجة وقبوله واجب.
وأما قياسهم لذلك على شهادة الجار لنفسه؛ فهو قياس من لا يعرف شروط القياس؛ لأن الإجماع دليل يحصل به العلم، والشهادة يحصل بها الظن، ولأن القياس لا يكون إلا لما لا دليل عليه، والإجماع مدلول عليه، ولأن من شرط ما يقاس أن يكون مشاركاً لما يقاس عليه في علة الحكم المطلوب، ولأن إجماع العترة على دعوى الإمامة لا تجر لهم في الدنيا إلا المضار التي تزيل التهم عنهم لكون ذلك تكليفاً شاقاً، فبان بذلك أن الإجماع والشهادة لم يشتركا في شيء من أوصافهما، وكل أمرين لم يشتركا في وصف فقياس أحدهما على الثاني باطل.
[ذكر أدلة الأئمة على حجية إجماع العترة]
وقد تكلم في ذلك: السيد أبو طالب يحيى بن الحسين الهاروني، والسيد أبو عبدالله الحسين بن إسماعيل الجرجاني، والإمام المنصور بالله - على جميعهم السلام - بما يكثر أن يحكى لفظاً ومعنى.(1/183)
فمن معاني أدلة السيد أبي طالب (عَلَيْه السَّلام): نفي الله سبحانه للرجس عن العترة في آية التطهير، وهو رجس المعاصي؛ فدل بذلك على أنهم لا يجمعون إلا على حق يجب قبوله.
ومن معاني أدلة السيد أبي عبدالله - عَلَيْه السَّلام -: مقارنة النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - للعترة بالكتاب ونفيه لافتراقهما، وتسميته لهما باسم واحد وهو الثقل؛ فدل بذلك على كونهم حجة كالكتاب.
ومن معاني أدلة الإمام المنصور بالله - عَلَيْه السَّلام -: جعل الله سبحانه العترة شهوداً على الناس وهو سبحانه لحكمته لا يختار للشهادة إلا العدول، والعدول لا يقولون إلا الحق، والحق لا يجوز خلافه.
وجعل النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - التمسك بهم شرطاً للنجاة من الضلال، قال (عَلَيْه السَّلام): (ولا يُشَبَّه إجماع العترة بشهادة الجارِّ إلى نفسه؛ لكون إجماعهم منصوصاً عليه من جهة غيرهم، قال: ولأن الأمة قد تجمع على ما يجر النفع إليها، ولا يرد إجماعها).
[ذكر معارضة المعتزلة لما أوجب الله سبحانه من مودة العترة والجواب عن ذلك]
الرابعة: معارضتهم لما أوجب الله سبحانه من مودة العترة وتعظيمهم وتفضيلهم؛ بغلوهم في مدح الصحابة على الجملة، واستدلالهم على ذلك بروايتهم عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أنه قال: ((أصحابي مثل النجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)) ونحو ذلك.(1/184)
ومما يجاب به عن ذلك: لكونه شبهة يجب حلها أن يقال: إن مدح الصحابة على الإطلاق بعد تفرقهم يؤدي إلى مخالفة إجماع العترة، وإلى الإخلال بفرض الولاء والبراء، وإلى لبس أئمة الهدى بأئمة الضلال، وإلى لبس المحق بالمبطل، وإلى تعظيم من لا يجوز تعظيمه، وكل ذلك قبيح، وما أدى إلى القبيح فهو قبيح.
وذلك لكون اسم الصحابة عاماً لكل من صحب النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - في حياته، وقد تفرقوا بعد وفاته؛ فمنهم: من ارتد عن جملة الإسلام.
ومنهم: من بقي على نفاقه مجتهداً في التدليس.
ومنهم: من ظلم الأمة بصده لهم عن سبيل نجاتهم، وظلم الأئمة بدفعه لهم عن مقامهم وإرثهم، وظلم الإمامة بجعله لها في غير موضعها، وظلم نفسه بمعصيته لله ورسوله في نكثه لبيعته ورجوعه عن جيش أسامة بغير إذن، وقطعه لما أمر الله به أن يوصل، وكونه أول من سن رفض الأئمة، والخلاف بين الأمة، وقد ميز الله سبحانه من لم يظلم من المؤمنين عمن ظلم بقوله: {الَّذِينَ ءَامَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ(82)} [الأنعام].
ومنهم: الناكثون، ومنهم: القاسطون، ومنهم: المارقون، ومنهم: المعتزلون لعلي - عَلَيْه السَّلام - المكتفون بأنفسهم، والمحكمون لآرائهم المتشككون في جهاد معاوية.(1/185)