[ذكر إجماع الأمة مع العترة على جواز الإمامة في العترة]
وأما إجماع الأمة مع العترة على جواز الإمامة فيهم؛ ففائدة الإستدلال به: التنبيه على أن كل الناس وكل قريش لم يجمعوا على دعوى الإمامة كما أجمعت العترة، وعلى أن العترة لم يجمعوا معهم على جوازها فيهم؛ فدل ذلك على أن الإجماع لم ينعقد إلا على جواز الإمامة في العترة، وعلى أن دعوى الخوارج ودعوى المعتزلة باطلة لكونها دعوى للغير بغير دليل.
[ذكر إجماع الصحابة مع العترة على أن الأفضل أولى بالإمامة وبعض فضائل أمير المؤمنين (ع)]
وأما إجماع الصحابة مع العترة على أن الأفضل أولى بالإمامة؛ ففائدة الإستدلال به: التنبيه على أن ذلك يكون حجة عليهم؛ لأنه قد اجتمع لعلي - عَلَيْه السَّلام - من الفضائل ما لا يمكنهم جحدها، ولا يوجد لغيره مجتمعاً مثلها.
ومن مشهور فضائله - عَلَيْه السَّلام -: فضيلة القربى، وفضيلة النجابة، وفضيلة طيب المنشأ، وفضيلة السبق، وفضيلة العلم، وفضيلة الصبر، وفضيلة الصدق والوفاء، وفضيلة التخصيص بالكرامات المنبهة على علو منزلته عند الله سبحانه.
أما فضيلة القربى: فلأنه ابن عم النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- لأبيه وأمه، وشاهد ذلك قول أبي طالب، شعراً:
إن علياً وجعفراً ثِقَةٌ
لا تخذلا وانصرا ابن عمكما
عند شِداد الأمور والكرب
أخي لأمي من بينهم وأبي(1/156)
ولذلك فإنه - عَلَيْه السَّلام - لما علم باحتجاج قريش على الأنصار بالقربى، قال: (احتجوا بالشجرة، وأضاعوا الثمرة)، وقال في معنى ذلك، شعراً:
فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم
وإن كنت بالقربى حججت خصيمهم
فكيف تليها والمشيرون غُيَّبُ
فغيرك أولى بالنبي وأقربُ
وأما فضيلة النجابة: فلأن نسبه هو نسب النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - لم يفرق بينهما من الأمهات إلا فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي - عَلَيْه السَّلام - ففضائلها مشهورة.
ومما يؤيد ذلك: حكاية الحاكم رحمه الله في كتاب تنبيه الغافلين عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - أنه قال: ((إن الله تعالى خلق روحي وروح علي قبل أن يخلق آدم (عَلَيْه السَّلام) بما شاء الله؛ فلما خلق آدم (عَلَيْه السَّلام) أودع أرواحنا صلبه، فلم يزل ينقلها من صلب طاهر إلى رحمٍ طاهر لم يصبها دنس الشرك، ولا عهر الجاهلية حتى أقرها في صلب عبد المطلب، ثم أخرجها من صلبه فقسمها قسمين فجعل روحي في صلب عبدالله، وروح علي في صلب أبي طالب؛ فعلي مني وأنا من علي، نفسه كنفسي، وطاعته كطاعتي لا يحبني من يبغضه، ولا يبغضني من يحبه)).(1/157)
وأما فضيلة طيب المنشأ: فلأن النبي - صلى الله عليه وعلى آله - هو الذي كفله وآواه، وأدبه ورباه، فلم يسجد - عَلَيْه السَّلام - لصنم، ولم يقع في مأثم، وقد بين علي ذلك في بعض خطبه المذكورة في كتاب نهج البلاغة؛ فقال: (وقد علمتم موضعي من رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - بالقرابة القريبة، والمزية الخصيصة، وضعني في حجره وأنا وليد يضمني إلى صدره، ويكنفني في فراشه، ويمسني جسدَه، ويشمني عرقه، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه، وما وجد لي كذبة في قول، ولا خطلة في فعل).
وأما فضيلة السبق: فلأنه - عَلَيْه السَّلام - أول ذكر آمن بالنبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - وصلى معه، وله - عَلَيْه السَّلام - في ذلك مع فضيلة السبق فضيلة العصمة، وفضيلة إيتاء الحكمة في حال الصغر، ومن شعره - عَلَيْه السَّلام - في معنى ذلك [قوله]:
سَبَقْتُكُمُ إلى الإسْلامِ طُراً .... صغيراً ما بلغتُ أوانَ حلمي
وآتاني ولايتَه عليكم .... رسولُ اللهِ يومَ غديرِ خمِّ
وأما فضيلة العلم: فلأنه - عَلَيْه السَّلام - وارث علم النبي - صلى الله عليه وعلى آله - والمخصوص بمكنون سره، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وعلى آله -: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)) وكان كل الصحابة محتاجاً إلى علمه -عَلَيْه السَّلام- ولم يكن محتاجاً إلى علم أحدٍ منهم.(1/158)
ومما يؤيد ذلك: حكاية الحاكم -رحمه الله- عنه - عَلَيْه السَّلام - في كتاب تنبيه الغافلين أنه قال: (لو كسرت لي الوسادة، ثم جلست عليها لقضيت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم، وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، والله ما من آية نزلت في بر ولا بحر، ولا سماء ولا أرض، ولا سهل ولا جبل، ولا ليل ولا نهار؛ إلا وأنا أعلم متى نزلت وفي أي شيء نزلت، وما من رجل من قريش جرت عليه المَواسِي إلا وأنا أعلم أي آية نزلت فيه تسوقه إلى جنة أو نار).
وأما فضيلة الصبر: فلأنه - عَلَيْه السَّلام - ذكر في كتاب المحن أن الله سبحانه ابتلى صبره في أربعة عشر موطناً، سبعة في حياة النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وسبعة بعد وفاته.
وجملة ذلك: أنه - عَلَيْه السَّلام - بلي من المحن بما لم يبل به أحد غيره من الصحابة، وظهر من صبره عليها ما لم يظهر من غيره مثله على ما هو دونها، وذلك منذ مبيته على فراش النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - موطِّناً لنفسه على الصبر للقتل إلى ما كان من صبره في مواطن الزحف التي تزل فيها الأقدام، وتبلغ القلوب الحناجر، إلى ما كان من صبره على ما ابتلي به من وفاة رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله - وإجماع أكثر الصحابة في ذلك الحال على استغنام الفرصة في ظلمه، والإستئثار بالأمر دونه، وعظم الصبر على قدر عظم البلوى، وعظم البلوى على قدر عظم حال المبتلى.(1/159)
وقد مدح الله الصابرين، وجعل من ثواب بعضهم استحقاق الإمامة؛ فقال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا...الآية} [السجدة:24].
وأما فضيلة الصدق والوفاء: فلأنه - عَلَيْه السَّلام - لم ينكث عهداً، ولم يخلف موعداً، وشاهده في ذلك قول الله سبحانه: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ...الآية} [الأحزاب:23]، وقد تقدم ذكرها، وقوله سبحانه: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا(7)} [الإنسان].
وأما فضيلة التخصيص بالكرامات المنبهة على علو منزلته عند الله سبحانه: فهي أكثر من أن تحصر وقد نظم ذلك الإمام المنصور بالله أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - في شعره الذي يقول فيه:
ردتْ لهُ شمسُ الضحى وردها .... من أعظم الآيات والفضائل
ولو عَدَدْتُ ما قضيتُ حقَه .... ومن يَعُدُّ حَبَّ رمل هائل
فَصُرِّفَت عنه لغير موجب .... بل لهناتٍ قيل أو دغائل(1/160)