وإنما الخلاف في معرفة الفرق بين ولي الله وعدوه، ومعرفة الفرق بينهما فرع على معرفة الفرق بين الحق والباطل بصفاتهما وأدلتهما التي من عرفها لم يوال من تجب مباراته، ولم يبار من تجب موالاته.
ومعرفة الفرق بين الحق والباطل فرع على معرفة الفرق بين أدلة العقل وما يعارضها من الشبه المتوهمة، وبين محكم الكتاب والسنة، وما يعارضهما من المتشابه، ومن الآراء المبتدعة.
وبمعرفة هذا الأصل وهذه الجملة من مقدمات البلوى يُعْرَفُ الفرق بين الحق والباطل، وبين أهلهما، وبمعرفة ذلك كله يستعان على معرفة البلوى بما أوجب الله تعالى على الأمة من طاعة من جعله [الله] ولياً لهم بعد رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وأميراً لهم في حياته وبعد موته، وعرفهم به، وبما يجب من موالاته ومعاداة من نازعه؛ إذ لا واسطة بين إمام الهدى وإمام الضلال، ولا يجوز اعتقاد صحة إمامة كليهما مع التنازع، ولا يجوز رفض كليهما لما في ذلك من تجويز خروج الحق من أيدي جميع الأمة.
ومن كلام أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - فيما ينبه على ذلك تعريضه لمن قدم غيره عليه بقوله: (خلفتم الحق وراء ظهوركم، وقطعتم الأدنى ووصلتم الأبعد، واعلموا أنكم إن اتبعتم الداعي لكم سلك بكم منهاج الرسول، وكفيتم مؤنة الإعتساف).
وقوله: (ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم الذين تكبروا عن حسبهم، وترفعوا فوق نسبهم).(1/136)
وتعريضه لمن لم يُحَكِّم القرآن على رأيه بقوله: (فإنه ينادي مناد يوم القيامة: ألا إن كل حارث مبتلى في حرثه وعاقبة عمله غيرَ حرثة القرآن؛ فكونوا من حرثته وأتباعه، واستدلوا به على ربكم، واستنصحوه على أنفسكم، واتهموا عليه آراءكم، واغشوا فيه أهواءكم، العمل العمل، ثم النهاية النهاية، والإستقامة الإستقامة، ثم الصبر الصبر، والورع الورع، إن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، وإن لكم علماً فاهتدوا بعلمكم).
وقوله في قصة التحكيم: (ولما دعانا القوم إلى أن يَحْكُمَ بيننا القرآن لم نكن الفريق المتولي عن كتاب الله، [فنحن أحق الناس به]، وقال الله سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59]، فرده إلى الله أن نحكم بكتابه، ورده إلى الرسول أن نأخذ بسنته؛ فإذا حكم بالصدق في كتاب الله فنحن أحق الناس به، وإن حكم بسنة رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - فنحن أولاهم بها).
وتعريضه لمن لم ينكر على من تقدم عليه بقوله: (أيها الناس إنما يجمع الناس الرضى والسخط، وإنما عقر ناقة ثمود رجل واحد فعمهم الله بالعذاب لما عموه بالرضى).
وقوله: (وإنما الناس رجلان: متبع شِرْعة، ومتبع بدعة ليس معه من الله سبحانه برهان سنة، ولا ضياء حجة).
تم الكلام في الموضع الأول.
[الكلام في مسائل الإمامة]
وأما([125]) الموضع الثاني
وهو في الكلام في مسائل الإمامة
فهو ينقسم على عشرة فصول:(1/137)
الأول: في حكاية جملة [من] مذهب العترة في ذلك، ومذهب المعتزلة.
والثاني: في ذكر جملة مما يدل على صحة مذهب العترة وبطلان ما عداه.
والثالث: في صفة الإمام الذي تجب طاعته.
والرابع: في ذكر حكم من يخالف الأئمة في علوم الدين التي يجب العلم بها.
والخامس: في ذكر حكم من يخالف بين أئمة العترة وينسبهم إلى التفرق في الدين.
والسادس: في ذكر جملة مما يجب أن يحمل عليه ما اختلف من الأقوال المنسوبة إلى الأئمة - عَلَيْهم السَّلام -.
والسابع: في ذكر جملة من معارضات المعتزلة لأدلة الأئمة في مسائل الإمامة.
والثامن: في ذكر جملة مما يعتذر به من جمع بين التشيع والإعتزال.
والتاسع: في ذكر فروق تميز بين الأئمة والعامة.
والعاشر: في ذكر جملة مما يكشف عن أسرار المتشيعين.
[حكاية جملة من مذهب العترة في الإمامة ومذهب المعتزلة]
أما الفصل الأول
فمذهب العترة ومن شايعهم: هو القول بأن الله سبحانه قد أوجب في محكم كتابه، وعلى لسان نبيه - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أن تكون الإمامة بعد وفاة النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- لعلي ثم للحسن ثم للحسين - عَلَيْهم السَّلام - على التعيين.(1/138)
ثم من بعدهم على الجملة لمن بلغ درجة السبق، وجمع خصال الفضل من ولد الحسن والحسين خاصة، وأنهم هم آل النبي وعترته وذريته الذين أوجب الله مودتهم واصطفاهم لإرث كتابه وسماهم أهل الذكر وأولي الأمر، وأمر بسؤالهم، وأوجب طاعتهم مع طاعته وطاعة رسوله، وأمر بالرد إليهم، وجعل طريق النجاة في طاعتهم والتمسك بهم، وطريق الهلاك في مخالفتهم.
ومذهب المعتزلة: هو القول بأن النص بدعة، وأن أولي الأمر وأهل الذكر ليس المراد بهم أهل البيت خاصة، وأن الله سبحانه لم يجعل الإمامة بعد النبي -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- في واحد بعينه، ولا في منصب من قريش مخصوص، بل جعل الأمر في ذلك شورى بين الأمة يعقدون ويختارون للإمامة من اتفق رايهم على تقديمه، واحتجوا بقول الله سبحانه: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38].
وحكى الحاكم -رحمه الله تعالى- في السفينة: أن شاعرهم قال في ذلك:
ما نصّ في الأمرِ على الأئمهْ.... لكنّه حكَّم فيه الأمّهْ
والإمام عندهم بعد النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي - عَلَيْه السَّلام -.(1/139)
[ذكر ما يدل على صحة مذهب العترة في الإمامة وبطلان ما عداه]
وأما الفصل الثاني
وهو في ذكر ما يدل على صحة مذهب العترة وبطلان ما عداه:فيدل على ذلك: نصوص الكتاب وموافقها من الأخبار، وأدلة العقل المستنبطة من أدلة الكتاب والسنة، وإجماع الأمة مع العترة على جواز الإمامة فيهم، وإجماع الصحابة مع العترة على أن الأفضل أولى بالإمامة، وإجماع المعتزلة مع العترة على القول بإمامة علي - عَلَيْه السَّلام -.
[الأدلة من الكتاب على صحة مذهب العترة في الإمامة]
أما نصوص الكتاب:
فمنها: قول الله سبحانه: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124]، وقوله: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ...الآية} [القصص:68]، وقوله: {وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ(32)} [الدخان]، ونحو ذلك من الآيات المتضمنة للنص الصريح على أن الله سبحانه هو الذي يختار ويصطفي ويجتبي لتبليغ رسالاته، وإرث كتبه، وتمليك الأمر والنهي في بريته، من يشاء من عباده، وأنه لا خيرة في ذلك لغيره، وكل من اختاره الله سبحانه فقد نص عليه وبينه في كتابه وعلى لسان نبيه -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- إما معيناً باسمه وصفته، وإما مجملاً بصفته دون اسمه.(1/140)