[ذكر البلوى بجواز استعمال المجاز مع الحقيقة في كثير من الأسماء ووجه الحكمة في ذلك]
وأما الفصل الخامس
وهو في البلوى بجواز استعمال المجاز مع الحقيقة في كثير من الأسماء والعبارات:فذلك ظاهر في إباحة الله سبحانه لعباده أن يتسموا مجازاً بما هو من أسمائه حقيقة نحو الملك والقادر.
وإضافته إلى نفسه مجازاً ما هو من صفاتهم حقيقة نحو العين واليد، وذلك هو الذي يجب أن يحمل عليه كل اسم تسمى به الله وغيره من الأسماء المشتركة في اللفظ دون المعنى، ولا يجوز أن يجعل من قبيل أسماء الأجناس، التي يتوصل بها إلى القياس؛ لكون أسماء الأجناس من خصائص المحدثات التي يتعالى الله سبحانه عنها لقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وإذا لم يكن له مثل فليس له جنس، [وإذا لم يكن له جنس] فالمشاركة بينه وبين غيره فيما يتوصل به إلى القياس له على غيره تكون إلحاداً في أسمائه، وعدولاً عن طريق معرفته، وتحريفاً للكلم عن مواضعه، وتلبيساً على من لا يميز بين ما يكون من الأسماء مشتركاً بين أشياء مختلفة نحو العين والوجه، وما يكون من الأشياء مسمى بأسماء مترادفة نحو وجود الشيء وثبوته، وكونه وكنهه، وذاته وعينه، أو قدمه وأزله، أو حدثه وتجدده، إذا أريد بالتجدد كونه بعد أن لم يكن.
وما يدل من الأسماء على نفي المسمى نحو العدم والمعدوم، [وما يدل على إثبات مسمى غير مُكَيَّف ولا معين نحو الشيء والموجود]، وما يدل على إثبات مسمى مكيف مجانس نحو الجسم والحيوان.(1/131)
وما يدل على إثبات صفة زائدة على ذات الموصوف نحو القادر من المخلوقين لكونه قادراً بقدرة بخلاف الباري سبحانه لكونه قادراً لا بقدرة، وأشباه ذلك من تصاريف الكلام، واختلاف معاني الأسماء والعبارات التي لأجل البلوى باختلافها ظهر الفرق والتمييز بين الأئمة الموحدين، و[بين]من خالفهم في علوم الدين على ما سيأتي من شواهد ذلك، وبيان ما يحتاج إلى بيانه فيما بعد إن شاء الله سبحانه.
[ذكر وجه الحكمة في البلوى بالتخلية والتمكين لأعداء الحق والمحقين]
وأما الفصل السادس
وهو في البلوى بالتخلية والتمكين لأعداء الحق والمحقين:
فوجه الحكمة في ذلك: إظهار ما علم الله سبحانه من صبر الأنبياء والأئمة وأتباعهم على كريه ما ابتلاهم به من المحن في دنياهم، وإظهار ما علم سبحانه من حسد أعدائهم لهم، وقلة صبرهم على ما ابتلاهم به من إيجاب طاعتهم، وميلهم إلى متابعة أهوائهم، لما في الميل إلى الدنيا من حصول شهوات أنفسهم، التي لأجل الحب لها تظاهر أئمة الضلال وعلماء السوء وأتباعهم، على عداوة أئمة الهدى والصد عنهم، وعلى المعارضة لأدلة العقول بشبه أوهام النفوس، ولمحكم الكتاب والسنة بمتشابه الآيات وزخارف الروايات، ولما يجب من توقير الأئمة الهادين، بتعظيم الرؤساء المضلين.(1/132)
ومما يشهد بصحة هذه الجملة من كتاب الله سبحانه: قوله في [ذكر] البلوى، بالتخلية والإملاء: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) } [الأنعام]، وقوله: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ(44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ(45)} [القلم].
وقوله في ذم الأكثر من الناس عموماً ومن العلماء والعباد خصوصاً: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ(103)} [يوسف]، وقوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ(116)} [الأنعام]، وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ...الآية} [التوبة:34].
ومن كلام أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - في ذم الأكثر من أهل عصره، والوعظ لمن يغتر بالكثرة [قوله (عَلَيْه السَّلام)]: (واعلموا رحمكم الله أنكم في زمان القائل فيه بالحق قليل، واللسان عن الصدق كليل، واللازم للحق ذليل).(1/133)
وقوله: (ولقد أصبحنا في زمان إتخد أكثر أهله الغدر كيّساً، ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم قاتلهم الله قد يرى الحُوَّلُ القُلَّبُ وجه الحيلة، ودونها مانع من الله ونهيه، فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين).
وقوله في ذكر قلة أنصاره على أهل السقيفة: (فنظرت فإذا ليس لي ناصر [ولا ذاب ولا مساعد] إلا أهل بيتي فظننت بهم عن الموت، وأغضيت على القذى، وشربت على الشجا، وصبرت على أخذ الكظم، وعلى أمر من طعم العلقم).
وقوله: ([يا] أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الهدى لقلة أهله).
وقوله للحارث بن خوط لما قال له: أترى يا أمير المؤمنين أن أهل الشام مع كثرتهم على الباطل، وأن أهل العراق مع قلتهم على الحق: (يا حار، إنه لملبوس عليك، إن الحق لا يعرف بالرجال، وإنما الرجال يعرفون بالحق؛ فاعرف الحق تعرف أهله قلوا أم كثروا، واعرف الباطل تعرف أهله قلوا أم كثروا).
وقوله له أيضاً لما قال له: أتراني أظن أصحاب الجمل كانوا على ضلالة؟ (يا حار، إنك نظرت تحتك، ولم تنظر فوقك فحرت إنك لم تعرف الحق فتعرف من أتاه، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه) فقال: إني أعتزل مع سعد بن مالك وعبدالله بن عمر، فقال - عَلَيْه السَّلام -: (إن سعداً وعبدالله بن عمر لم ينصرا الحق ولم يخذلا الباطل).(1/134)
وأما الفصل السابع
وهو في البلوى بإيجاب الولاء والبراء في الدين:
فالولاء ينقسم إلى عام: نحو ما ذكره الله سبحانه من موالاة المؤمنين والمؤمنات بعضهم لبعض، وإلى خاص: وهو ما أوجب الله سبحانه على المؤمنين من طاعة أولي الأمر منهم ومودتهم، وتوقيرهم وسؤالهم، والرد إليهم، والاقتفاء لآثارهم في الدين قولاً وعملاً واعتقاداً.
والبراء ينقسم إلى المبارأة لكل عاص لله تعالى بالقلب واللسان مع جواز البر له والإقساط إليه -إذا كان مسالماً- بكل ممكن، وإلى المباراة لمن حارب أئمة الهدى وظاهَر على حربهم والمعاداة لهم.
وأما كون التعبد بالولاء والبراء من جملة البلوى؛ فلما فيه من وجوب إكراه النفس على البغضة والمهاجرة لمن ولعت نفسه بمحبته، وأنست بصحبته، من الآباء والأبناء، والسادات والأخلاء، إذا كانوا محادين لله ولأوليائه، وإكراهها على ما تكره من الموادة والموالاة لمن عاداهم.
وأما وجوب الولاء والبراء: فهو ظاهر بما في كتاب الله سبحانه من الأمر بموالاة أوليائه، والوعد على ذلك بالثواب، والنهي عن موادة أعدائه، والوعيد على ذلك بالعقاب.
وبما في أقوال النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وأفعاله، واشتراطه للولاء والبراء على من تابعه.
ولا خلاف في وجوبهما على الجملة؛ لأن أهل كل مذهب يوجبونهما على أتباعهم، ويدعون أنهم [هم] الفرقة الناجية.(1/135)