ثم أقوال الأئمة مقدمة على ما عداها؛ بمعنى أنه لا يجوز معارضة الأئمة بأقوال مخالفيهم.
ومما ينبه على النظر في معاني هذا الفصل من كلام النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم:
قوله: ((من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله، والتدبر لكتابه، والتفهم لسنتي؛ زالت الرواسي ولم يزُل)).
وقوله: ((تفكروا في المخلوق، ولا تفكروا في الخالق)).
وقوله: ((أنا مدينة العلم وعلي بابها)) ونحو ذلك مما ينبه على معرفة طرق العلم والأخذ له من أهله.
ومن كلام أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - في بعض خطبه[المذكورة في كتاب] نهج البلاغة قوله: (وما كلفك الشيطان علمه مما ليس عليك في القرآن فرضه، ولا في سنة النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - وأئمة الهدى أثره؛ فكل علمه إلى الله، فذلك منتهى حق الله عليك).
[ذكر وجه الحكمة في البلوى بمقارنة هوى النفوس للعقول]
وأما الفصل الثالث
وهو في البلوى بمقارنة هوى النفوس([61]) للعقول
فوجه الحكمة في ذلك ما تقدم ذكره من التمييز؛ لأن الله سبحانه لو أخلى العقول المركبة في البشر عن هوى النفوس لم يظهر الفرق بين من يُحَكِّمُ عقله على هوى نفسه، وبين من يؤثر هوى نفسه على عقله، ولا الفرق بين الملائكة - عَلَيْهم السَّلام - وغيرهم.(1/126)


ولو أخلى [الله] هوى نفوس المكلفين من البشر عن العقول لأشبهوا البهائم، ولأجل عظم البلوى بهوى النفس ضَرَبَ لها المثل بالعدو الذي إن غفلت عنه لم يغفل عنك، ولذلك وصفها الله سبحانه بأنها أمارة بالسوء ومسولة للقبيح.
وضَرَبَ المثل للعقل بالحكيم الذي إن طلبته وجدته، وإن غفلت عنه لم يطلبك، ولذلك قال الله سبحانه: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا} [الأعراف:179]، وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا(24)} [محمد].
واتباع هوى النفس هو سبب كل معصية لله ولرسوله، وسبب الإعتراض بالشبه على الأدلة، وبالمتشابه على المحكم، وبأئمة الضلال وعلماء السوء على أئمة الهدى، وهو سبب استحقاق كل عقوبة كانت في الدنيا، وما سيكون في الآخرة.
ولأجل عظم البلوى بهوى النفوس سمى النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - جهادها الجهاد الأكبر، ومما ينبه على ذلك من كتاب الله سبحانه قولُه: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ(87)} [البقرة]، وقوله: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى(23)} [النجم]، وقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى(40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى(41)} [النازعات].(1/127)


ومن الأخبار المروية عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- [قوله]: ((إنما يؤتى الناس يوم القيامة من إحدى ثلاث: إما من شبهة في الدين ارتكبوها، أو شهوة للذة آثروها، أو عصبية لحمية أعملوها)).
وقوله: ((إني أخاف على أمتي أعمالاً ثلاثة: زلة عالم، وحكم جائر، وهوى متبعاً)).
ومن كلام أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - المحكي عنه في كتاب نهج البلاغة قوله: (إنما بدءُ وقوع الفتن: أهواء تتبع، وأحكام تبتدع، يخالف فيها كتاب الله، ويتولى عليها رجال رجالاً على غير دين الله؛ فلو أن الباطل خلص من مزاج الحق، لم يَخْفَ على المرتادين، ولو أن الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه ألسن المعاندين، ولكن يؤخذ من هذا ضِغْثٌ ومن هذا ضِغْث فيمتزجان فهنالك يستولي الشيطان على أوليائه، وينجوا من سبقت لهم من الله الحسنى).(1/128)


[ذكر وجه الحكمة في البلوى باشتمال القرآن على المحكم والمتشابه]
وأما الفصل الرابع
وهو في البلوى باشتمال القرآن على المحكم والمتشابهفلأن الله سبحانه لو جعله ضرباً واحداً جلياً علمه، مستمراً حكمه، لم يظهر به الفرق بين المؤمن بلسانه وقلبه، والمؤمن بلسانه دون قلبه، ولو لم يظهر لم يتميز بعد النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - عدو أئمة الهدى من وليهم، وإنما جعله الله سبحانه مشتملاً على المحكم والمتشابه، والمجمل والمبين، والناسخ والمنسوخ، وأشباه ذلك مما لأجل البلوى به ظهر سر كل مؤمن بلسانه متبع لهوى نفسه، وأمكنه لأجله أن يعارض محكم الكتاب والسنة بزخرف التأويلات، ومبدع الروايات المستحيلات؛ فلذلك تبين رفضه الأئمة الهادين، وظهر الفرق بينه وبين المخلصين للدين، وعظمت به البلوى على المسترشدين والمقلدين.
ومما يشهد بصحة ذلك من كتاب الله سبحانه قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ(7)} [آل عمران].(1/129)


ومن كلام أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام - قوله المحكي في النهج: (واعلم أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم عن اقتحام السدد المضروبة دون الغيوب، الإقرارُ بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب؛ فمدح الله اعترافهم بالعجز عن تأويل ما لم يحيطوا به علماً، وسمى تركهم للتعمق فيما لم يكلفوا البحث عن كنهه رسوخاً).
وقوله: (إن في أيدي الناس حقاً وباطلاً، وصدقاً وكذباً، وناسخاً ومنسوخاً، وعاماً وخاصاً، ومحكماً ومتشابهاً، وحفظاً ووهماً، وقد كذب على رسول الله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم- على عهده حتى قام خطيباً؛ فقال: ((من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار))).
وقوله: (فإنه لا سواء إمام الهدى وإمام الردى، وقد قال النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((إني لا أخاف على أمتي مؤمناً ولا مشركاً؛ أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، وأما المشرك فيمنعه الله بشركه، ولكني أخاف عليهم منافق الجنان، عالم اللسان يقول ما يعرفون، ويفعل ما ينكرون))).
وقوله: (دعه يا عمار فإنه لم يأخذ من الدين إلا ما قاربته الدنيا، وعلى عمد لبس على نفسه ليجعل الشبهات عاذراً لسقطاته).(1/130)

26 / 94
ع
En
A+
A-