وأما بيان وجه الحكمة في الإبتلاء؛ فهو ما أخبر الله سبحانه به من التمييز بين المطيعين والعاصين بما يظهر عند البلوى من أسرارهم؛ لأنه سبحانه لحكمته لا يعذب على ما يعلم من معاصي العباد قبل ظهورها، وظهورها لا يكون إلا بالإمتحان كما قال سبحانه: {الم(1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3)} [العنكبوت]، وقال: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179].
ومن أمثلة ذلك: ما حكى سبحانه من امتحانه للملائكة بإيجاب السجود من أجل آدم؛ فسجدوا إلا إبليس.
وامتحانه لأصحاب طالوت بتحريم الشرب من النهر [فشربوا إلا قليلاً منهم]، وامتحانه لأصحاب القرية بتحريم صيد يوم السبت.
وامتحانه لقوم موسى بمغيبه عنهم، واستخلافه لهارون فيهم، وأشباه ذلك مما يدل على أنه سبحانه يمتحن أهل كل عصر إلى يوم القيامة بما يميز بينهم، ويوجب له الحجة عليهم، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.(1/121)


ولذلك قرن سبحانه وجوب طاعته على المؤمنين بطاعة رسوله -صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم-، وطاعة أولي الأمر من القائمين مقام رسوله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -، وأمر بالرد إليهم، وأمر نبيه أن يُعَرِّف الأمة بهم.
[نبذ من كلام أمير المؤمنين (ع) في الحكمة من بعثة الرسل والابتلاء]
ومما يؤيد هذه الجملة من كلام أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام – [المحكي عنه في كتاب نهج البلاغة]: قوله: (فبعث الله فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منشأ نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويُرُوهم آيات القدرة من سقف فوقهم مرفوع، ومهاد تحتهم موضوع، ومعائش تحييهم، وآجال تفنيهم، وأوصاب تهرمهم، وأحداث تتابع عليهم).
وقوله - عَلَيْه السَّلام -: (ولم يُخْلِ الله سبحانه خلقه من نبي مرسل، وكتاب منزل، وحجة لازمة، أو محجة قائمة).
وقوله في البلوى: (ولكن الله سبحانه يبتلي خلقه ببعض ما يجهلون أصله تمييزاً بالاختبار لهم، ونفياً للإستكبار عنهم).
وقوله - عَلَيْه السَّلام - في إبليس ومن اقتدى بفعله: (فعدو الله إمام المتعصبين، وسلف المستكبرين، الذي وضع أساس العصبية، ونازع الله رداء الجبروتية، وادَّرَعَ لباس التعزز، وخلع قناع التذلل).(1/122)


..إلى قوله: (فمن [ذا] بعد إبليس يسلم على الله بمثل معصيته؟؛ كلاَّ؛ ما كان الله ليدخل الجنة بشراً بأمر أخرج به منها ملكاً، إنَّ حُكْمَهُ في أهل السماء وأهل الأرض لواحد، وما بين الله وبين أحد من خلقه هوادة في إباحة حمىً حرمه على العالمين).
[ذكر وجه الحكمة في البلوى باختلاف طرق العلم وذكر بعض أمثلتها وما يجب ترتيبه منها]
وأما الفصل الثاني
وهو في البلوى باختلاف طرق العلم، وذكر بعض أمثلتها وما يجب ترتيبه منها
فوجه الحكمة فيها التمييز بين من يقف بعقله على حده وفرضه، و[بين] من يتعدَّ الحدود بوهمه، ويتعاطى معرفة ما لا علم له به، وذلك لأن من المعلومات ما لا طريق لكل المكلفين أو لبعضهم إلى معرفته على الجملة، أو على الجملة والتفصيل لكونها من الغيوب التي استأثر الله بعلمها أو خص بعلمها بعض عباده.
وشاهد ذلك قوله سبحانه: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ(8)} [النحل]، وقوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا(85)} [الإسراء]، وقوله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ(76)} [يوسف]، وقوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ} [آل عمران:179]، وقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة:255]، وقوله: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36].(1/123)


ومن المعلومات ما فطر الله العقول على معرفته ضرورة، وهو على الجملة كلما يُعَدُّ من خالف فيه مكابراً لعقله.
ومن أمثلة ما يتعلق بذكره الغرض:
منها: العلم بأنه يستحيل إثبات متوسط بين النفي والإثبات، نحو شيء ولا شيء؛ فإنه لا يجوز أن يتوسط بينهما إلا ما يعلم ضرورة أنه محال نحو أن يوصف أمر بالنفي والإثبات معاً فيقال: شيء ولا شيء، أو يوصف بنفيهما معاً فيقال: لا شيء ولا لا شيء.
وكذلك الجمع بين صفتي القدم والحدوث نحو أن يوصف أمر بأنه محدث وأزلي، أو محدث ولا نهاية لجنس ذاته، أو محدث ولا أول لذاته.
وكذلك الجمع بين صفتي الوجود والعدم، نحو أن يوصف أمر بأنه ثابت معدوم، وأشباه ذلك مما يكثر عن الإحصاء.
ومن المعلومات ما طريق معرفته درك الحواس الخمس، وأمثلتها ظاهرة في الأجسام والأعراض.
ومنها: ما طريق معرفته درك النفوس نحو: الفرح والغم والتوهم، وأشباه ذلك مما قد ذكره الأئمة - عَلَيْهم السَّلام -.
ومنها: ما طريق معرفته النظر العقلي، والقياس الاستدلالي، نحو الإستدلال بالصنع على أنَّ له صانعاً، والإستدلال على مخالفة كل نقيض [لنقيضه] بكونه نقيضاً له، ولذلك وجب وصف الله سبحانه بأنه شيء لا كالأشياء، وأنه ليس كمثله شيء.(1/124)


وكذلك الاستدلال بمعلوم النشأة الأولى على جواز ما سيكون من النشأة الآخرة، ومما نبه الله [به]على ذلك قوله سبحانه: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ(62)} [الواقعة]، وقوله: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ(79)} [يس].
ومن المعلومات ما طريق معرفته خبر من يجب قبول خبره إما لحكمته وإما لعصمته، وإما لوجوب طاعته، وهذه الجملة تشتمل على الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة، أو العترة، وأقوال أئمة الأعصار وهم أولوا الأمر الذين أوجب الله طاعتهم مع طاعته وطاعة رسوله، وأمر بسؤالهم والرد إليهم، وهو سبحانه لا يأمر بسؤال من لا يجب قبول أخباره فيما سئل عنه.
وأما ما يجب ترتيبه من ذلك: فأدلة العقل مقدمة على أدلة السمع؛ بمعنى أنه لا يجوز القنوع بالتقليد فيما يجب معرفته بالعقل، وأنه لا يحتج بالفرع على من ينكر أصله.
ثم الضروري من المعلومات مقدم على الإستدلالي؛ بمعنى أنه كافٍ في الإستدلال، وأنه لا يجوز أن يتوصل بالنظر والإستدلال إلى مخالفته.
والكتاب مقدم على السنة؛ بمعنى أنه لا يجوز مخالفة محكم الكتاب بما ينسب إلى السنة؛ لأنه يجب عرض ما اختلف فيه من السنة على محكم الكتاب.
والسنة مقدمة على الإجماع؛ بمعنى أنه لا يصح دعوى الإجماع على ما يخالف محكم السنة.
والإجماع مقدم على أقوال أولي الأمر؛ بمعنى أنه لا يجوز أن ينسب إلى الأئمة الهادين ما يخالف الإجماع.(1/125)

25 / 94
ع
En
A+
A-