التصريح بالمذهب الصحيح
مما ولي تأليفه السيد العالم العامل [نور الدين وعين الموحدين
محيي علوم آبائه الأكرمين]
حميدان بن يحيى بن حميدان بن القاسم بن الحسن القاسمي
قدس الله روحه ونور ضريحه بحق محمد وآل محمد
بسم الله الرحمن الرحيم، [وبه أستعين]
[ديباجة الكتاب والغرض من تأليفه]
أحمد الله تعالى حمد معترف بوحدانيته وجلاله وعدله، وحكمته سبحانه في جميع أفعاله وأقواله، مؤدٍ لما يجب من شكر سني مواهبه الهنية ونواله، وما لا نحصي[له] عدداً من جزيل إنعامه وإفضاله، وتركيبه فينا العقول المميزة بين صحيح القول ومحاله، وإحكامه لما صَرَّف في كتابه المبين من آياته وأمثاله، وهدايته لمعرفة معالم دينه الحنيف وإكماله، ولمَا افترض من الوقوف عند حدود حرامه وحلاله، وإيجابه للتمسك بعترة من خصه بختم إرساله، محمد صلى الله عليه وعلى الطيبين الطاهرين من آله.(1/116)
وبعد، فإن الغرض بهذا المختصر وتأليفه، والأرب الذي دعا إلى جمعه وتصنيفه، هو التقرب إلى الله سبحانه بتصريح الحق وتعريفه، وكشف لُبَسِ من لَبَّسه بمغالط تأويلاته وتحريفه، ومشاركته بين الخالق والمخلوق في بعض وصفه وتكييفه، وتهجينه بأقوال الموحدين من الأئمة وتعنيفه، وتعظيمه لما زعم أنه من دقيق علم الكلام ولطيفه، الذي ادعت المعتزلة أنهم استنبطوه بثواقب العقول، وأوهموا أنهم ميزوا به بين [كل] معلوم ومجهول، فيما اعتمدوه من رفضهم لأئمة آل الرسول، صلى الله عليه وعليهم واعتقدوه من جواز تقديم الأبعد المفضول، وابتدعوه من الأقوال المزخرفة في الفروع والأصول، الخارجة بمن اغتر بها عن حد المسموع والمعقول، وفي سلوكهم لطريقة الفلاسفة في الجدال، ولبس أدلة الهدى بمغالط الضلال، وادعائهم للحق فيما اخترصوه من مذهبهم، والسبق إلى ما امتدحوا به من لقبهم، وتسميتهم لبدعهم باسم العدل والتوحيد، وتظهيرهم لذم الجهل والتقليد، ليصيدوا بذلك من اغتر به من أغمار الأمة، ويصدوهم به عن التمسك بعلوم الأئمة، الذين اصطفاهم الله تعالى لإرث الكتاب، وإيتاء الحكمة وفصل الخطاب، وجعلهم حفظة للعقول عن تجاوز الغايات، والإختيار لسبل مهاوي الغوايات، وملجئاً لكشف ما التبس من الشبهات، وتبيين ما اخْتُلِف فيه من تأويل الآيات المتشابهات، وما يوافقها من الأخبار المزخرفة، وتفرع عنها من القياسات المتكلفة، ولذلك أمر المؤمنين بالإعتماد في السؤال عليهم، والرد في كل شيء(1/117)
اختلفوا فيه إليهم، وحتم بالمودة لهم حتماً لازماً، وحكم في الصلاة بالصلاة عليهم حكماً واجباً، وأخبر سبحانه بتطهيره لهم، ليشهر بذلك فضلهم، وبين في محكم كتابه المبين، أنه اختارهم على علم على العالمين؛ لعلمه سبحانه باهتدائهم إلى سواء الصراط، المتوسط بين التفريط والإفراط، ولما زادهم بعد اهتدائهم من الهدى، الذي جعلهم لأجله ممن بهم يهتدى ويقتدى.
ثم إن من أَنْكَرِ البدع، وأشهر الشنع، طموح العجب بأهوى المعتزلة، إلى الطمع في النزول بهذه المنزلة، تحكماً في الدين وغلواً، وتعظماً على المنتجبين وعلواً، وليسوا في ذلك بأعجب حكاية، ولا أعظم في الدين نكاية، من سائر رفضة الأئمة السابقين، والبغضة لكافة العترة المحقين، لولا ميل من خدعوه بزخارف الأقوال، من الجامعين بين التشيع والإعتزال، إلى الترجيح لأقوالهم، والتصحيح لمحالهم، والتعظيم لأخطارهم، والتفخيم لأنظارهم، والتفضيل لمذهبهم، والتبجيل لكتبهم؛ ليتوصلوا بذلك إلى اعتزال علوم الأئمة الهادين، والوصف لهم بقلة العلم بدقائق النظر في أصول الدين، واعتذروا لهم في التقصير عن بلوغ المراد، في نشر العلوم وهداية العباد، بأنهم قنعوا بالجمل واشتغلوا بالجهاد.
فلما سمعت بذلك عنهم، وسمعته شفاهاً من بعض من عرفت منهم، مع علمي ببعض ما يدحضه من الأدلة الباهرة، وينقضه من أقوال أئمة العترة الطاهرة، تعين علي حينئذ فرض التصريح، بما علمت من أدلة المذهب الصحيح.(1/118)
فاجتهدت في ذلك بحسب الإمكان، لكي لا أكون ممن ذمه الله سبحانه بالكتمان، واعتمدت [بعد] التوكل على الله والتفويض إليه، والإعتماد فيما قصدت من ذلك عليه، على التبيين لمذهب الأئمة - عَلَيْهم السَّلام -، في أهمِّ ما خالفهم فيه أهل علم الكلام، وأهمُّ ما وقع بينهم فيه من الإختلاف:
مسائل الإمامة والذوات والأوصاف، مع ما هو في حكم المشتق منها، والمتفرع من المسائل عنها، وجملة الكلام في ذلك يقع في خمسة مواضع:
الأول منها: في ذكر جملة من مقدمات البلوى التي ينبني عليها الكلام في علوم الدين.
والثاني: في مسائل الإمامة لكونها من أول ما وقع فيه الإختلاف بين الأمة.
والثالث: في الصانع تعالى وما يستحق من الصفات لذاته أو لفعله.
والرابع: في العالم وصفات ذواته وذكر فنائه.
والخامس: في ذكر جملة من أصول مغالط المعتزلة، التي أوهموا أنها أدلة.
[ذكر جملة من مقدمات البلوى التي ينبني عليها الكلام في علوم الدين]
أما الموضع الأول
فهو ينقسم على سبعة فصول:
الأول: في ذكر عموم البلوى، وبيان وجه الحكمة فيها.
والثاني: في البلوى باختلاف طرق العلم وذكر بعض أمثلتها، وما يجب ترتيبه منها.
والثالث: في البلوى بمقارنة هوى النفوس للعقول.(1/119)
والرابع: في البلوى باشتمال القرآن على المحكم والمتشابه.
والخامس: في البلوى بجواز استعمال المجاز مع الحقيقة في كثير من الأسماء والعبارات.
والسادس: في البلوى بالتخلية والتمكين، لأعداء الحق والمحقين.والسابع: في البلوى بإيجاب الولاء والبراء في الدين.
[ذكر عموم البلوى وبيان وجه الحكمة فيها وبعض الأمثلة]
أما الفصل الأول
فكل عاقل على الجملة مبتلى بضروب من البلوى، ولذلك سمي متعبداً ومكلفاً، وذلك ظاهر في كتاب الله سبحانه بما يكثر عن الإحصار، من ذلك قول الله سبحانه: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الإنسان:2]، وقال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك:2]، وقال: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35].
وقال تعالى في بلوى المفاضلة: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا ءَاتَاكُمْ} [الأنعام:165]، وقال: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام:53]، وهذا موضع الفائدة من هذا الفصل، وهو التنبيه على معرفة عظم هذه البلية التي لأجلها هلك أكثر الأولين والآخرين.(1/120)