[الكلام في قول الله سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} والصراط وتأويلهما]
والمسألة الثالثة: تأويل قول الله سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71]، وتأويل الصراط، وذلك لأن من المفسرين من زعم أن الضمير في: واردها، المراد به جهنم، وأن جميع الناس يمرون في صراط فوقها؛ فمنهم من تزل قدمه، ومنهم من يسلم.
وأنكر ذلك بعضهم، وقال: [إن] الضمير في واردها راجع إلى الموضع الذي ذكره الله سبحانه بقوله: {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا(68)} [مريم] ، هذا إذا كان الخطاب عاماً لأهل الجنة وأهل النار.
وإن كان خاصاً للذين عناهم بقوله سبحانه: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} [مريم:68]، ارتفع الخلاف.
ومما احتج به من أنكر ورود أهل الجنة [لجهنم] قول الله سبحانه: {لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} [الأنبياء:102]، وقوله: {وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ ءَامِنُونَ(89)} [النمل]، قالوا: ولا فزع أعظم من المرور فوق جهنم على مثل حد السيف، ومع ذلك فقد أخبر الله سبحانه أن لكل باب من أبواب جهنم جزءاً من أهل النار مقسوماً، وأنهم يساقون إليها من موضع الحساب الذي يَرِدُهُ كل إنسان إلا من شاء الله سبحانه من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وكذلك أهل الجنة يساقون إليها من ذلك الموضع لا إلى جهنم.(1/96)
[الكلام في استحقاق الخلود في النار هل هو بعمل أو لا بعمل؟]
[و]المسألة الرابعة: في استحقاق الخلود في النار هل هو بعمل أو لا بعمل؟
وذلك لأن المجبرة يزعمون أنه مستحق لا بعمل؛ لأنه لا قدرة للمخلوق بزعمهم.
ومما يشنع به بعضهم سؤالهم عمن مات عقيب بلوغه، وقد عصى معصية واحدة هل يخلد أم لا؟ فإن قيل: يخلد، أَلْزَموا أن ذلك ظلم؛ لئلا يعترض بمثله عليهم، وإن قيل: لا يخلد، أَلْزَموا الخروج من المذهب.
وقد تقدم ذكر ما يدل على بطلان قولهم إنه لا قدرة للمكلف على فعل ما كلف فعله، وترك ما كلف تركه مع كون بطلانه ظاهراً لأجل مخالفتهم به للعقل والسمع.
أما العقل: فلأن الله سبحانه جبل العقول على معرفة الفرق بين الظلم والعدل في الشاهد.
وأما السمع: فلأن الله سبحانه نفى الظلم عن نفسه، وأضافه إلى الظالمين من عباده، ومن المعلوم ضرورة أنه لا يعقل كون الظالم من المخلوقين ظالماً إلا إذا فعل الظلم، وأنه لا يعقل كون العادل عادلاً إلا إذا أنصف المظلوم من الظالم، ومن المعلوم عقلاً وسمعاً أنه لا يجوز أن يضاف إلى الله سبحانه فعل ما جبل العقول على معرفة قبحه، ونهى المكلفين عن فعله، وكذلك كلما تمدح سبحانه بنفيه عن نفسه.(1/97)
[الجواب عن تدليس المجبرة بالسؤال عمن عصى معصية واحدة عقيب بلوغه ثم مات]
وأما تشنيعهم وتدليسهم بالسؤال عمن عصى معصية واحدة عقيب بلوغه ثم مات.
فالجواب عن ذلك بأمور:
منها: أنا لم نتعبد بعلم الغيب، وإنما تعبدنا بإجراء أحكام الشريعة في الظاهر، وترك الخوض بالأوهام فيما لا علم لنا به.
ومنها: أنه لا يعتبر في استحقاق الخلود في النار بالمعصية إلا الإصرار عليها بحيث أنه لو أخرج من النار لعاد لما نهي عنه.
ومنها: أن لله سبحانه ألطافاً خفية، ورحمة واسعة، ومن الممكن أن يكون سبحانه ألهم ذلك العاصي التوبة والندم قبل موته، وعلمها من ضميره، وختم بها له فيكون حكمه عند الله في الباطن بخلاف حكمه عندنا في الظاهر.
ومنها: أنه يمكن أن يكون ممن تقبل الله سبحانه فيه الشفاعة.
وأشباه ذلك مما يدل على أن الله سبحانه لا يدخل أحداً النار ويخلده فيها إلا بذنب فعله في الدنيا، ومات مصراً عليه بعد الإعذار والإنذار والتمكين من فعل الطاعة وترك المعصية.(1/98)
[زعم المرجئة أن الله سبحانه يخلف وعيده لأهل النار بالخلود فيها والرد عليهم]
والمسألة الخامسة: إخلاف الوعيد، وذلك لأن المرجئة يزعمون أن الله [سبحانه] يخلف وعيده لأهل النار بالخلود [فيها]، واحتجوا على ذلك من المتشابه والشبه بما لا حجة لهم فيه.
أما المتشابه: فنحو قول الله سبحانه: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا(23)} [النبأ]، وقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} ثم استثنى بقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأنعام:128]، وقوله: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:40].
والجواب: أن هذه الآيات وما أشبهها من [جملة] المتشابه المجمل الذي قد بينه الله سبحانه بالآيات التي أكدها بالتأبيد الذي لا انقطاع له، وتحكيم المحكم المبيَّن على المتشابه المجمل واجب لا يجوز خلافه مع أنه لو لم يرد في ذلك إلا ما حكاه الله سبحانه من قول الكفار: {لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً} وتكذيبه سبحانه لهم بقوله: {قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ(80) بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(81)} [البقرة].(1/99)
ونحو قوله سبحانه: {قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ(24)} [آل عمران]، لكفى به للمرجئة ناصحاً، ولنا عليهم دليلاً واضحاً.
وأما إيهامهم للمماثلة بين سيئة العاصي والسيئة التي هي جزاء له فليس بينهما مماثلة في الكيفية ولا في المقدار، مثاله: ما نعلمه في الشاهد من قطع يد السارق التي ديتها خمس مائة مثقال على سرقته التي قيمتها عشرة دراهم قفلة.
وأما الشبه، فنحو قولهم: إن العقلاء في الشاهد يستحسنون إخلاف الوعيد، ويمدحون عليه.
والجواب: أن ذلك لم يحسن إلا لأجل قرائن لا يجوز إضافتها إلى الله سبحانه نحو البدأ، والندم من الظلم وطلب الذكر أو العوض، بدليل أن المتوعد لو كان إمام حق لما جاز له في الشرع ولا حسن في العقل أن يخلف توعده للظالم، وأن يترك إنصاف المظلوم منه مع القدرة عليه.
فهذه جملة ما قصدت به التنبيه للمتعلمين على طلب العلم من أهله ومعدنه.
والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله وسلم.(1/100)