[الكلام في الإيمان باليوم الآخر]
وأما الإيمان باليوم الآخر: فالكلام فيه ينقسم إلى خمس مسائل:
[الكلام في البعث على الجملة]
الأولى: [في] الكلام في البعث على الجملة، وذلك لأن جميع فرق الكفار والزنادقة استبعدوا واستعظموا أن يعود الإنسان حياً بعد كونه تراباً، قال الله سبحانه: {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ(2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ(3)}...إلى قوله سبحانه: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ(12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ(13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ(14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ(15)} [ق](1/91)


، ومما علم سبحانه أنبياءه من الأدلة وأمرهم أن يحتجوا بها على أممهم، أربع دلالات لكل دلالة طريق من سلكه انتهى به إلى العلم اليقين:
الأولى: دلالة المبدأ على المعاد، نحو قوله سبحانه: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًاوَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ(5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(6) وَأَنَّ السَّاعَةَ ءَاتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ(7)} [الحج]
ووجه الإستدلال بهذه الآية: من وجهين:
أحدهما: أنه لما كان لا يحسن الكلام مع الكفار في البعث قبل الكلام في إثبات الصانع القادر نبههم على النظر في كونهم مخلوقين خلقاً بعد خلق، ليستدلوا بذلك على أن لهم صانعاً أوجدهم بعد عدمهم، وكثرهم بعد قلتهم، وأحياهم بعد موتهم. والوجه الثاني: تنبيهه سبحانه لهم على أن الذي خلق أولهم من تراب في الإبتداء يقدر أن يعيدهم أحياء بعد كونهم تراباً، ونظائر هذا كثير، نحو قوله سبحانه: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ(79)} [يس].(1/92)


والدلالة الثانية: طريقها قياس بعض الصنع على بعض نحو قول الله سبحانه: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ(81)} [يس]، وقوله سبحانه: {وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ(19)} [الروم]، وقوله سبحانه: {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ(9)} [فاطر]، وقوله سبحانه: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(57)} [الأعراف]
، وقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} [فصلت:39]، وما أشبه ذلك مما نبَّه الله سبحانه على أنه لا فرق بين إحياء الأرض بعد موتها، وإحياء الناس بعد موتهم.
والدلالة الثالثة: طريقها خبر الحكيم الذي يجب تصديقه، وهو الله سبحانه، وقد أخبر بذلك، ومعرفة وجوب تصديقه فرع على معرفة حكمته على ما تقدم.(1/93)


والدلالة الرابعة: طريقها المشاهدة نحو ما شاهده إبراهيم - صلى الله عليه - فيما حكاه الله سبحانه في قوله: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ(260)} [البقرة]، وما شاهده عزير فيما حكاه الله سبحانه [عنه] بقوله: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} [البقرة:259]، وما شاهده بنو إسرائيل فيما حكاه سبحانه [عنهم] بقوله: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ ءَايَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(73)} [البقرة].(1/94)


[الكلام في بعث ما عدا الآدميين من الحيوانات]
والمسألة الثانية: بعث ما عدا الآدميين من الحيوانات، وذلك لأن من المخالفين من زعم أنها لا تبعث، ومنهم من زعم أنها تبعث، ثم يقال لها: كوني تراباً، ومنهم من قال: إنها تبعث وتعوض على ما نالها من المحن في الدنيا، وإنها باقية أبداً إذ لا فرق بينها وبين الآدميين في كونها مخلوقة بالقصد، ولذلك قال الله سبحانه: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور:45]، وقال: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ} [البقرة:164]، فكما أنه لا فرق بين جميع الدواب في ذلك في الدنيا، فكذلك لا فرق بينها في البعث في الآخرة.
وكذلك قال الله سبحانه: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ(38)} [الأنعام].
وكذلك فإن العقل يقضي بأن إحياءها بعد الموت أولى في الحكمة من تركها ميتة، وأن تعويضها بالنعيم الدائم أولى من إماتتها بعد الحشر.(1/95)

19 / 94
ع
En
A+
A-