وأما القرآن: فيجب الإيمان به قولاً عملاً واعتقاداً لأجل كونه حجة الله بعد العقل باقية لا يجوز مخالفته، وكونه معجزاً لا يقدر أحد على الإتيان بمثله لا في الفصاحة، ولا فيما يتضمن من الأخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة، ولا في كونه محفوظاً لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا فيما وصفه الله سبحانه به نحو كونه تبياناً لكل شيء ونوراً، وروحاً وشفاء، وبصائر وهدى وبشرى للمؤمنين.
وكذلك وصف النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - [له] بقوله: ((إذا التبست عليكم الأمور كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن فإنه شافع مشفع، وشاهد مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، هو أوضح دليل إلى خير سبيل، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل)) ويجب تحكيم المحكم منه على المتشابه، والمبين على المجمل، والناسخ على المنسوخ، والخاص على
العام، ويجب الإئتمار [بجميع] ما أمر الله سبحانه به، والإنتهاء عن جميع ما نهى [الله] عنه، ويجب الرجوع في كل مشكل من غامض علومه، أو مختلف فيه من تأويله، إلى سؤال من أمر الله بسؤاله، والرد إليه من ورثته وأهله، والتمسك بهم مع الكتاب، ولذلك قال النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي)) ونحو ذلك من الأخبار المتفقة في المعنى، وإن اختلفت الألفاظ.
ويجب ترك الاغترار بشبه من زعم أن عقله يغنيه عن الكتاب وأهله، ومن زعم أن ورثة الكتاب هم جميع العلماء، ومن زعم أن القرآن الصحيح مكتوم مع الأئمة الغائبين، ومن زعم أن للقرآن تأويلاً باطناً مخالفاً لجميع ظواهره.(1/81)
[الكلام في الإيمان برسل الله سبحانه]
وأما الإيمان برسل الله سبحانه: فالكلام فيه ينقسم إلى ذكر من تقدم من الأنبياء - عَلَيْهم السَّلام -، وإلى ذكر نبينا -صَلَّى الله عَلَيْهِ وآله وَسَلَّم- خاصة، وإلى ذكر من يقوم من ذريته مقامه من بعده.
[ذكر من تقدم من الأنبياء -(ع)-]
أما ذكر من تقدم من الأنبياء - صلوات الله عليهم -: فهو يشتمل على جمل تفيد من تأملها يقيناً في علمه، وخشوعاً في قلبه، إذا لم يكن فيه زيغ يمنعه من البصر بعقله.
منها: حكاية الله سبحانه لاتفاق أقوالهم في الدعاء لأممهم إلى الإيمان بالله سبحانه، والاستدلال عليه بصنعه نحو:
قول نوح - عَلَيْه السَّلام -: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا(13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا(14)} [نوح]، أي مرة بعد مرة، وخلقاً بعد خلق.(1/82)
وقول هود - عَلَيْه السَّلام -: {وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ(132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ(133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(134)} [الشعراء]، أي خافوا الله الذي رزقكم.وقول صالح - عَلَيْه السَّلام -: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِتَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا} [الأعراف:74]، أي تذكروا لتعلموا أن الله سبحانه [الذي] خلقكم وجعلكم خلفاء لعاد، وأسكنكم في مساكنهم فلا تعصوه فيفعل بكم مثل ما فعل بهم.
وقول شعيب - عَلَيْه السَّلام -: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ(184)} [الشعراء].
وقول إبراهيم - على جميعهم السلام -: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ(95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ(96)} [الصافات]، وأشباه ذلك مما يجمعه قول الله سبحانه: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ(9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ...ألآية} [إبراهيم]؛ فهذا وما أشبهه هو الذي إذا تفكر فيه الموحد ازداد يقيناً إن شاء الله [سبحانه].(1/83)
ومنها: حكايته سبحانه للمعجزات التي جعلها دالة على معرفته وحجة لأنبيائه نحو قوله سبحانه للنار: {كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ(69)} [الأنبياء]، ونحو ما جعل في عصا موسى - صلى الله عليه - من الآيات، ونحو خلقه لعيسى - صلى الله عليه - من غير أب وإنطاقه له في المهد، وما جعل على يديه من إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص وما أشبه ذلك مما أعجز كل متزندق إطفاء نوره.
ومنها: حكايته سبحانه لما ابتلى به أنبياءه من المحن نحو عمى يعقوب، وضر أيوب، وما أشبه ذلك من أنواع الضر والخوف والحاجة التي محصهم [الله] بها في الدنيا ليكونوا من عباده المخلصين، وليكونوا في ذلك أسوة وقدوة للمؤمنين، وليدل [بذلك] على كذب من نسبه إلى طالع المولود، وما يقارنه من نحوس أو سعود.(1/84)
[ذكر نبينا (ص) خاصة]
وأما ذكر نبينا خاصة - صلى الله عليه وعلى آله -: فلأن الله سبحانه خصه بأن جعله رسولاً إلى كافة الثقلين، وختم به الرسل، وفضله على جميع الأولين والآخرين، وأظهر دينه على جميع الأديان، وافترض على كل مكلف اتباع سبيله، والمودة له والطاعة، والصلاة عليه، والإقتداء به في الدين، والموالاة لمن والاه، والمعاداة لمن عاداه، وجعل سبحانه طاعته طريقاً إلى الجنة، ومعصيته طريقاً إلى النار قضاء وقدراً لا محيص عنه؛ فلهذا أوجب الإيمان به خاصة، والتمسك بدينه قولاً وعملاً واعتقاداً.
[ذكر من يقوم مقامه (ص) من ذريته ويخلفه من بعده]
وأما ذكر من يقوم مقامه من ذريته ويخلفه من بعده: فلأنه لا فرق بين الحاجة إليه، والحاجة إلى من يقوم مقامه في كل عصر.
والكلام في ذلك ينقسم إلى: حكاية أقوال المختلفين، وإلى ذكر جملة مما يدل على بطلان ما عدا قول أئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام -.(1/85)