فأما مجازاً فقد ورد نص الكتاب بذلك، وكذلك فإنه لا يجوز أن يضاف إلى أحد من المخلوقين فعل شيء حقيقة إلا شيئين من الأعراض لا ثالث لهما، وهما: حركة كل حيوان وسكونه، وذلك لأن كل فعل يفعله الحيوان فهو راجع إلى الحركة، وكل ترك يتركه فهو راجع إلى السكون، ومن هنا يعلم غلط من زعم أن التارك للفعل لم يفعل شيئاً، وسواء كان المتحرك الساكن مختاراً لفعله أو ملهماً له أو ملجأً إليه، وإن اختلفت الأحكام.
ولا خلاف في شيء من ذلك بعد بطلان بدع الفلاسفة إلا مع فرقتين وهما: أصحاب القول بالفطرة والتركيب، وأصحاب القول بالجبر.
[قول المطرفية الطبيعية بأن الله سبحانه لم يخلق بالقصد إلا الأصول والدليل على بطلانه]
أما أصحاب القول بالفطرة والتركيب: فهم فرقة من المطرفية الطبيعية يزعمون أن الله سبحانه لم يخلق بالقصد إلا الأصول، وأما الفروع فزعموا أنه خلقها بالفطرة والتركيب لا بالقصد، وغرضهم بنفي القصد إثبات بدعهم، نحو إنكارهم للحكمة في خلق الحيوانات المؤذية، وفي الأمراض، وفي رزق العصاة، وأشباه ذلك مما زعموا أنه لا يجوز أن يقال إن الله سبحانه خلقه بالقصد.(1/76)
ومما يدل على بطلانها: أنهم إذا سئلوا عن الأجسام والأعراض الضرورية، هل لها خالق غير الله سبحانه؟ أقروا أنه لا خالق لها إلا هو سبحانه، وإذا سئلوا عن أرزاق العصاة، هل هي أجسام؟ وعن الآلام هل هي أعراض ضرورية؟ أقروا بذلك، وكذلك إذا سئلوا عن الفطرة، هل هي فاعلة مختارة أو علة موجبة؟ صاروا في جميع ذلك وما أشبهه في حيرة مترددين، لا هادين ولا مهتدين.
[قول الأشعرية القدرية بأن المكلف مجبور على الطاعة والمعصية والدليل على بطلانه]
وأما أصحاب القول بالجبر: فهم الأشعرية القدرية الذين يزعمون أن المكلف مجبور على الطاعة والمعصية، وأنهما فعل الله سبحانه [لا له]، ثم نقضوا ذلك بقولهم: إنها كسب له، وزعموا أن بين الفعل والكسب فرقاً، وإنما ابتدعوه ليدلسوا به على المقلدين لهم.
والذي يدل على بطلان ذلك: أنه لا فرق في العقل ولا في السمع بين إضافة كل واحد منهما إلى العبد، ولا بين القدرة عليهما، ولا بين الإرادة لهما، ولا بين حدثهما في وقت واحد من فاعل واحد، ولا بين استحقاق المدح أو الذم عليهما.(1/77)
ومما يدل من كتاب الله سبحانه على الفرق بين الإستطاعة والجبر قوله سبحانه: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ(42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ(43)} [القلم]، فانظر كيف فرق سبحانه بين ما يدعون إليه من السجود في الدنيا، وما يدعون إليه في الآخرة لكونهم مستطيعين في الدنيا وممنوعين في الآخرة.(1/78)
ومما يدل من الكتاب أيضاً على أن الله سبحانه لم يخلق شيئاً من أفعال العباد، وعلى أنها ليست بفعل له قوله سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ(12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ(13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً...إلى آخر الآية} [المؤمنون]، فانظر كيف فرق سبحانه بين ذلك لما كان إلقاء النطفة في القرار المكين فعلاً للمُلْقي بأن عبر عنه بالجعل دون ما قبله و[ما] بعده لأجل كون الجعل محتملاً للتأويل، ويصح به التمييز بين فعله سبحانه وفعل غيره؛ فتأمل ذلك وما أشبهه موفقاً إن شاء الله تعالى.
[الكلام في الإيمان بملائكة الله سبحانه]
وأما الإيمان بملائكة الله سبحانه: فالكلام فيه ينقسم إلى حكاية أقوال المختلفين فيهم، وإلى ذكر جملة مما أخبر الله سبحانه [به] عنهم.
[حكاية أقوال المختلفين في الملائكة (ع)]
أما حكاية الأقوال:
فمنها: قول من حكاه الله عنهم إنهم سموهم بتسمية الأنثى ظناً واختراصاً.(1/79)
ومنها: قول من قال من الفلاسفة وأتباعهم: إن الملائكة [عبارة] بزعمهم عن العقول، وعن الكواكب السبعة، وعن الطبائع، ونحو ذلك من تحريفهم للكلم عن مواضعه.
ومنها: قول أئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام -: وهو أنه لا طريق إلى معرفتهم إلا ما أخبر الله سبحانه به عنهم في كتبه أو على ألسن أنبيائه.
[ذكر جملة مما أخبر الله سبحانه به عن الملائكة -(ع)-]
وأما الذكر لجملة مما أخبر الله سبحانه به عنهم: فمن ذلك وصفه لهم - عَلَيْهم السَّلام - بأنهم أولي أجنحة، وأنهم عباد مربوبون، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وأنهم أهل السماوات وحفظتها، وأن منهم من يرسل بالروح من أمره إلى من يشاء من عباده، ومنهم من هو موكل بحفظ أعمال المكلفين ليلاً ونهاراً، ومنهم موكل بقبض الأرواح، ومنهم حملة العرش على حسب الخلاف في تأويل العرش وكيفية الحمل، ومنهم الموكلون بمحاسبة العباد في يوم المعاد، ومنهم خزنة الجنة، وخزنة النار، وأشباه ذلك مما يجب التصديق به.
[الكلام في الإيمان بكتب الله سبحانه]
وأما الإيمان بكتب الله سبحانه: فأما ما قبل القرآن من كتب الأنبياء - عَلَيْهم السَّلام -؛ فيجب على الجملة التصديق بكونها قولاً لله سبحانه صدقاً، وديناً حقاً، وإن كانت لا يجب التعلم فيها، ولا يجب العمل بمنسوخها.(1/80)