وقولهم: إن تلك الصفة الأخص ومقتضياتها وأحكام مقتضياتها أمور ثابتة فيما لم يزل.
وأما مذهب أئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام -: فهو أن الله سبحانه مستحق للوصف بكونه حياً قادراً عالماً لا لأمر، وأنه لا يجوز أن يكون لله صفات متوسطة بين ذاته ووصفه، وأنه كما لا يجوز أن يوصف [الله] سبحانه بإن ذاته وصفاتها أشياء قديمة؛ فكذلك لا يجوز أن توصف بأنها أمور ثابتة فيما لم يزل لعدم الفرق بين الأشياء والأمور، وبين القدم والأزل، فكما لا يجوز أن يكون قادراً لأجل قدرةٍ أوجبت كونه قادراً فكذلك لا يجوز أن يكون قادراً لأجل أمرٍ اقتضى كونه قادراً لعدم الفرق بين موجِبٍ اسمهُ علةٌ، وموجب اسمه مقتضي، وكما لا يجوز أن يتفكر في إثبات قدرة مُوجِبَةٍ فكذلك لا يجوز أن يتفكر في إثبات أمر مقتضى.
ولذلك قال أمير المؤمنين - عَلَيْه السَّلام -: (من وصفه فقد حده[ومن حده فقد عده]) وقال: (ومن وصفه فقد شبهه، ومن لم يصفه فقد نفاه، ووصفه أنه سميع ولا صفة لسمعه [سبحانه]) وقال: (ليس بعلة ولا معلول) وما أشبه ذلك مما أوجب به إثبات الوصف ونفي الصفة.
[الكلام في معنى أن الله سبحانه سميع بصير وذكر الاختلاف فيه]
وأما كونه سبحانه سميعاً بصيراً:
فللمشبهة المجسمة في ذلك مذهب منسوب إلى التفريط في النظر بالعقل الصحيح، وهو وصفهم للباري سبحانه بصفة المخلوق في الإدراك وغيره.(1/66)


وللمعتزلة فيه مذهب منسوب إلى الإفراط والتعدي لحد العقل، وهو وصفهم له سبحانه بأنه مُدْرِكٌ للمسموع والمبصر بدرك متجدد زائد على كونه عالماً، قالوا: وهو أمر ليس بشيء ولا لا شيء.
ولأئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام - فيه مذهب متوسط، وهو قولهم: إنه سبحانه مُدْرِكٌ لكل مُدْرَكٍ دَرَكُ عِلْمٍ لا يعزب عنه منها شيء فيما لم يزل، وفيما لا يزال، ولا يجوز توهمه، ولا قياسه ولا التفكر فيه، ولا فرق عندهم بين المتجدد والمحدث في كون كل واحد منهما كائن بعد العدم، وفي الحاجة إلى مكون كونهما، ولا فرق بين التكوين والإيجاد والإحداث والتجديد في المعنى.
ومن أوضح الأدلة على كون تحديد المعتزلة محالاً؛ وصفهم له بأنه لا شيء ولا لا شيء مع أنه لو جاز لهم تجويز ذلك في المسموع والمبصر لجاز تجويز تجدد سائر الإدراكات التي لا يجوز إضافتها إلى الله سبحانه نحو [إدراك] لذة المشتهيات - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً -.
[الكلام في معنى أن الله سبحانه عدل]
وأما وصف الباري سبحانه بأنه عدل: فالعدل مأخوذ من الإعتدال، واعتدال الشيء هو استواؤه واستقامته، وهو من أسماء الأضداد يقال: عدل عن الحق إذا مال عنه، ويقال: عدل في حكمه إذا حكم بالحق.
واعلم أن جميع فرق الإسلام تصف الله سبحانه بأنه عدل حكيم؛ لكن منهم من زعم أنه سبحانه خالق لظلم الظالمين، وجور الجائرين، وهم المجبرة القدرية؛ فخرجوا بذلك من جملة القائلين بالعدل.(1/67)


ومنهم من سمى بعض أفعال الله سبحانه جوراً وظلماً نحو: ما يصيب الناس في أموالهم وأنفسهم وثمراتهم من النقائص وهم الطبيعية المطرفية.
وأما مذهب أئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام - ومن قال مثل قولهم: فهو القول بأن الله سبحانه قد مكن المكلف بما جعل له [و]فيه من القدرة والعقل من فعل ما يختاره لنفسه من فعل بر أو فجور ابتلاء منه سبحانه له بذلك، ولذلك سمي مكلفاً، ومُتَعَبداً، والقول بأن جميع ما يبتلي الله سبحانه به عباده من النقائص والآفات والأمراض حكمة ومصلحة، وذلك ظاهر لا ينكره إلا من أنكر محكم الكتاب، والمجمع عليه من سنة رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم -.
[الكلام في معنى أن الله سبحانه متكلم وذكر الاختلاف في القرآن]
وأما وصفه سبحانه بأنه متكلم فلم يقع الاختلاف إلا في هذا القرآن المكتوب في المصاحف، المتلو بالألسن، المحفوظ في القلوب، هل هو كلام الله سبحانه أم غيره؟؛ ولم يختلف في أنه سبحانه متكلم لأجل قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا(164)} [النساء]، ولا اختلف من عدا المشبهة الذين لا يعتد بخلافهم في أن الله سبحانه لا يجوز أن يتكلم بآلة كآلة المخلوق، ولا في أنه سبحانه لا يجوز عليه الكون في الشجرة، ولا في أن الشجرة تكلمت.(1/68)


فأما اختلافهم في القرآن فأئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام - ومن قال مثل قولهم يقولون: إنه كلام الله سبحانه وإنه أوجده كما أوجد غيره من مخلوقاته، وإنه لا فرق بينه وبين كلام المخلوقين إلا بكونه أفصح، وكونه معجزاً.
[ذكر الدليل على أن القرآن كلام الله سبحانه]
ومما استدلوا به على ذلك: قوله سبحانه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، والكلام الذي يسمعه هو ما يتلى عليه من هذا القرآن الحكيم، وهذا نص صريح في موضع الخلاف، و[لأن] من المعلوم الذي لا اختلاف فيه أنه لا يعقل كون الكلام كلاماً إلا إذا كان منتظماً من حرفين فصاعداً حتى يصح النطق به وسماعه وكتابته.
[ذكر قول الأشعرية في القرآن والدليل على بطلانه]
وخالفهم في ذلك الأشعرية والمطرفية؛
أما الأشعرية: فزعموا أن القرآن قديم، وأن الله سبحانه متكلم فيما لم يزل، واحتجوا على ذلك بأنه لو لم يكن متكلماً لكان ساكتاً أو أخرس.
قالوا: وأما ما يسمعه الناس ويكتبونه فهو دليل عليه، وليس هو هو، واحتج بعضهم على ذلك بقول الشاعر:
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما.... جُعِل اللسان على الفؤاد دليلا(1/69)


والذي يدل على بطلان قولهم إنه قديم: وصفهم له بأنه كلام، وإذا كان كلاماً؛ فهو محدث؛ لأنه لا يعقل كون الكلام كلاماً إلا إذا كان فعلاً للمتكلم يتصرف تصرف الأفعال، ولذلك قال الله سبحانه: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا(164)} [النساء].
والذي يدل على بطلان قولهم: إنه لو لم يكن متكلماً فيما لم يزل لكان ساكتاً أو أخرس: أن السكوت والخرس من صفات آلة الكلام، وهم لا يقولون إنه سبحانه متكلم بآلة فبطل إلزامهم.
والذي يدل على بطلان قولهم: إن ما يسمع ويكتب دليل على القرآن وليس هو هو: تكذيب الله سبحانه لذلك بما حكاه من سماع موسى لكلامه، و[كذلك] قوله في المشرك: {حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [التوبة:6]،وكذلك قوله سبحانه: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى(18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى(19)} [الأعلى]، ونحو ذلك مما يدل على أن كلامه يسمع ويكتب.(1/70)

14 / 94
ع
En
A+
A-