ومن السمع: قوله سبحانه: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام:19]، وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، فدل باستثنائه لنفسه من جملة الأشياء على أنه سبحانه شيء.
وكذلك قوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:35]، واستدلوا على أنه لا كالأشياء بقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11]، وبما سيأتي [ذكره] من أدلة العقل.
[الكلام في معنى أن الله سبحانه موجود وذكر الاختلاف فيه]
وأما الموجود فزعم بعض المعتزلة أن وجود الباري سبحانه وتعالى أمر زائد على ذاته ليس بشيء ولا لا شيء، قالوا: وكذلك وجود المحدَث ولم يفرقوا بينه سبحانه وبين المحدَث إلا بأن لوجود المحدَث أولاً؛ فأما كونه بزعمهم ذاتاً ثابتة أو ذواتاً فيما لم يزل فلا فرق.(1/61)


ومذهب [أئمة] العترة - عَلَيْهم السَّلام -: هو أنه سبحانه موجود لا في مكان، ولا بعد عدم، ولا بمشاهدة، وأنه لا يجوز إثبات وجود للموجود غير ذاته، ولا يجوز على الجملة إثبات أمر ليس بشيء، ولا لا شيء في الشاهد ولا في الغائب لكون ذلك مستحيلاً، وغير مفروض ولا معقول.
[الكلام في معنى أن الله سبحانه واحد وذكر الاختلاف فيه]
وأما الواحد: فاعلم أن من زنادقة الفلاسفة من يدلس على المتعلمين بضرب مثال يضربونه لوحدانية علتهم التي زعموا أنها أزلية، وهو أن مثلها عندهم كمثل واحد العدد الذي يضاف إلى ما بعده، ولا يضاف إلى شيء قبله.
قالوا: ومثل العقل الأول المنفعل منها كمثل الثاني الذي رتبته ما بين الأول والثالث، ومثل النفس المنفعلة من العقل الأول [المنفعل منها] كمثل الثالث؛ حتى ينتهوا إلى التاسع.
ثم تكلموا في العاشر، قالوا: وهو العقل الفعال، وهو آخر العشرة، ونحو ذلك مما قد شغلوا به الأوراق، وأنفدوا في الإشتغال به الأعمار.
وأما مذهب أئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام -: فهو أن وحدانية الله سبحانه وحدانية مَلِكٍ لا بمعنى العدد؛ لأن واحد العدد يشبه سائر الآحاد ويتجزأ في نفسه، وكل متجزٍ ومشابه لغيره فليس بواحد على الحقيقة لأنه يكثر بإضافة غيره [إليه] ويقل في جنب ما هو أكثر منه.(1/62)


[ذكر بعض من الأمور التي استدل بها على أن الله سبحانه واحد]
ومما استدلوا به على أن الله سبحانه واحد، أمور منها: أن الذي دلهم على إثباته هو ما شاهدوا من أثر صنعهِ، وكذلك ما وصف نفسه به في كتابه، ولم يجدوا في شيء من ذلك إلا ما يدلهم على صانع واحد فعلموا أنه لو كان له ثانٍ لدل على نفسه فلما لم يوجد ذلك كانت الدعوى له دعوىً لغير مدع ولا مُوكِلٍ وكل دعوى كذلك فهي باطلة.
ومنها: أنه لو كان له ثانٍ لم يخل إما أن يكونا مجتمعين أو مفترقين، والإجتماع والإفتراق مما يدل على [ثبوت] الحدث.
ومنها: أنه لو كان له ثانٍ لم يخل إما أن يتفقا ويصطلحا، وإما أن يختلفا ويتعارضا، والإتفاق يدل على العجز والحاجة، وكل عاجز محتاج فليس بإله، وإن تعارضا لم يمتنع من طريق التقدير أن يريد أحدهما فعل شيء، و(يريد) الآخر منعه؛ فإن تكافأت قدرهما دل على عجزهما، وإن نفذ مراد أحدهما دل على عجز الثاني، ولا يصح أن يقال بنفاذ مراد كليهما لما في ذلك من تجويز كون المراد موجوداً معدوماً في حالة واحدة، وقد أيد الله سبحانه هذا التقدير بقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا ءَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء:22].(1/63)


[الكلام في معنى أن الله سبحانه قديم وذكر الاختلاف في معناه]
وأما القديم: فاعلم أن من المعتزلة من يفرق بين القديم والأزلي فيشارك بين الله سبحانه وبين ذوات العالم في الأزلية دون القدم، وفي الثبوت في الأزل دون الوجود.
وأما مذهب أئمة العترة - عَلَيْهم السَّلام -: فهو أنه قد يجوز أن يوصف المخلوق بالقدم لأجل تقادم وقت وجوده على وقت وجود غيره، قال الله سبحانه: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ(39)} [يس].
قالوا: ولا يجوز أن يوصف بأنه أزلي إلا الله سبحانه إذ لو جاز أن يوصف به أكثر من واحد للزم باضطرار تقدير الإجتماع أو الإفتراق، والتماثل أو التضاد أو الإختلاف، وكل ذلك من صفات الحدث الذي هو نقيض الأزل، قالوا: وإذا كان الوصف بالأزل خاصاً لله سبحانه بطل قول المعتزلة بالمشاركة فيه.
ومما استدلوا به على ذلك: دليل العكس الذي يحصل به العلم اليقين لكل عاقل غير مكابر، وهو كون كل شيء لا يخلو من أن يكون قديماً أو محدثاً قالوا: ومن المعلوم ضرورة أنه لا يجوز أن يتوسط بين هذين الوصفين النقيضين إلا أحد محالين إما جمعهما معاً، وإما نفيهما معاً.(1/64)


قالوا: وقد ثبت بالدليل أن محدِث العالم لا يجوز أن يكون محدَثاً لما في ذلك من تجويز حاجة كل محدَث إلى محدِث إلى ما لا نهاية له وهو محال بين، وإذا بطل أن يكون محدَثاً وجب باضطرار أن يكون قديماً لعدم الواسطة، وهذا الدليل هو الذي يستدلون به على ما أشبه هذه المسألة من [جميع] مسائل التوحيد.
قالوا: ولا سبيل لأحد إلى تجويز التفكر في كيفية قدم الباري سبحانه لأنه قدم لا بوقت فلذلك لم يجز التفكر فيما قبل القبل؛ لأنه لا قبل لأول وقت خلقه الله سبحانه، وكذلك لا يجوز التفكر فيما بعد البعد، وما فوق الفوق الذي لا فوق له، وما تحت التحت، وما أشبه ذلك مما لا سبيل إليه إلا الخرص والتوهم والتجويز لتعدي حد العقل، وإثبات ما لا يعقل.
[الكلام في معنى أن الله سبحانه حي قادر عالم وذكر الاختلاف فيها]
وأما كونه سبحانه حياً قادراً عالماً:
فاعلم أن للمعتزلة في ذلك أقوالاً:
منها: ما وافقوا فيه [قول] المشبهة، وهو إجماعهم معهم على الجملة على أنه لا بد من موجب أوجب كون الباري سبحانه حياً وقادراً وعالماً.
ومنها: ما وافقوا فيه قول أئمة العترة، وهو إجماعهم معهم على الجملة على أن الباري سبحانه حي لا بحياة، وقادر لا بقدرة، وعالم لا بعلم.
ومنها: ما اختصوا بابتداعه نحو قولهم: إن لله سبحانه صفة أخص زائدة على ذاته، وإن تلك الصفة موجبة ومقتضية لكونه حياً وقادراً وعالماً.(1/65)

13 / 94
ع
En
A+
A-