فالأول: غلو الإنسان في تعديه لحد نفسه وقدره، نحو من يدعي من المخلوقين الربوبية، ومن يدعي من الرعية النبوة أوالإمامة، ومن يدعي من الروافض أنه أعلم بعلوم الدين من الأئمة -عَلَيْهم السَّلام–.
والثاني: غلوه في غيره نحو غلو الصوفية والباطنية في مدحهم لكبرائهم، ووصفهم لهم بصفات الإله تعالى.
والثالث: غلوه في نظره نحو ادعاء الفلاسفة بعلم المبدأ والمعاد، وكيفية ترتيب العالم، وكم مساحته، وعدد أجناسه وأنواعه.
ونحو ادعاء السوفسطائية أن نظرهم أداهم إلى تبطيل حقائق الأشياء المشاهدة.
وادعاء الأشعرية للعلم بقدم الإرادة، وقدم القرآن.
وادعاء المعتزلة للعلم بثبوت ذوات العالم فيما لم يزل، ولإثبات أمور ليست بشيء ولا لا شيء.
[الكلام في الفرق بين المحكم والمتشابه]
وأما الكلام في الفرق بين المحكم والمتشابه: فاعلم أن المحكم من كتاب الله سبحانه من جملة ما فضله الله على غيره، وجعله إماماً يقتدى به نحو العلم الضروري الذي جعله الله أصلاً يبنى عليه، ويرجع في كل ما اختلف فيه من العلوم الإستدلالية إليه.(1/46)
ونحو من اصطفاه من الملائكة والناس للرسالة، ومن أوجب طاعته وسؤاله، والرد إليه، وكذلك المحكم جعله الله سبحانه أصلاً، وقدوة كما قال سبحانه: {مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:7]، أي أصله الذي يجب تحكيمه على المتشابه.
والفرق بين صفته وصفة المتشابه: أن المحكم: هو كل قول يفهم معناه من ظاهر لفظه، ولو حمل على غيره لم يعقل، مثاله قول الله سبحانه: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام:103]" ، وذلك لأنه لا خلاف في أن درك الأبصار هو رؤية العيون، وأنه لا يعقل حمله على غير ذلك.
وصفة المتشابه: هو أنه لا يفهم معناه من ظاهر لفظه إما لأجل كونه لفظاً مشتركاً بين معان، وإما لكونه مما يستعمل مجازاً لا حقيقة؛ فمثال المشترك قول الله سبحانه: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ(22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ(23)} [القيامة]، وذلك لأن لفظ النظر مشترك بين النظر الذي هو بمعنى البصر، والنظر الذي [هو] بمعنى الإنتظار؛ فلذلك لم يفهم معناه إلا بعد تأويله، وقد دل الدليل على أن الله سبحانه لم يرد به نظر البصر؛ لأن الله سبحانه قد نفاه في جوابه لموسى - صلى الله عليه - حين قال: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143]، فدل بنفيه للرؤية على أن النظر الذي أراده موسى - عَلَيْه السَّلام - هو نظر البصر، وعلى أنه سبحانه لا يُرى، وعلى أن المحكم هو قوله سبحانه: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [الأنعام:103] ، وعلى أن المجبرة من جملة من أخبر الله سبحانه أنهم اتبعوا(1/47)
المتشابه لأجل ما في قلوبهم من الزيغ.
ومثال ما يستعمل مجازاً ما ذكره [الله] سبحانه من الوجه والجنب واليد، ونحو ذلك مما يوصف به المخلوق حقيقة، والمحكم الذي يجب رده إليه وحمله عليه نحو قوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:11].
[الكلام في الفرق بين ما يجوز من التقليد وما لا يجوز]
وأما الكلام فيما يجوز من التقليد وما لا يجوز:
فاعلم أن الله سبحانه وتعالى لما فاضل بين عباده في العقول وفي الطاقة، فاضل بينهم في التكليف، ولم يكل المفضول منهم إلى نفسه ولا إلى عقله؛ فلذلك أوجب على المفضول طاعة الفاضل وسؤاله والرد إليه، ولولا أن مما تعبد المكلفي بمعرفته مما يجب التقليد فيه، وأن من عباده من يجب تقليده لما أمر بطاعة أولي الأمر، وسؤال أهل الذكر، ولولا أنه سبحانه قد عرفهم بما يقلدون فيه وهو قوله سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ} [الشورى:10]، وعرفهم بمن يقلدونه في مثل قوله سبحانه: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر:32]، وتبيين النبي - صَلَّى الله عَلَيْه وآله وَسَلَّم - لذلك بقوله: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به من بعدي لن تضلوا أبداً: كتاب الله وعترتي أهل بيتي)) ونحو ذلك مما سيأتي ذكر بعضه إن شاء الله(1/48)
لكان أمره بالطاعة والسؤال تكليفاً لعلم ما لا يُطاق وعلم ما لا يُعلم؛ فتعالى عن ذلك علواً كبيراً؛ فهذه جملة مما تنبه على وجوب طلب العلم الصحيح من أهله[ومحله].
وأما الفصل الرابع وهو في الكلام في العالم
فهو ينقسم إلى ذكر الخلاف في ماهيته وفي أصله، وفي أنواعه، وفي حدوثه، وفي المؤثر فيه.
[ذكر الخلاف في ماهية العالم]
أما الخلاف فيه ما هو: فهو بين الموحدين والملحدين.
أما قول الموحدين: فإذا أريد بالعالم جملة ما يعقل وما لا يعقل فهو السماوات والأرض وما بينهما، وإن أريد به ما يعقل خاصة فالعالمون هم الملائكة والجن والإنس، واحدهم عالم، ويقال لأهل كل عصر عالم، ومن رواة الأخبار من قال: إن العرش والكرسي غير السماوات والأرض.
وقال بعض الأئمة: يمكن أن يكون العرش هو جملة العالم، ويمكن أن يكون موضعاً من أشرف العالم وأعلاه.
عظَّم الله أمره وسماه عرشاً له، كما عظم أمر مواضع في الأرض وسماها بيوتاً له.
قال: ويمكن أن يكون الكرسي ضرب مثلاً لإحاطة علم الله سبحانه بكل شيء، ولا فرق بين قوله سبحانه: إنه استوى على العرش، وقوله: إنه في السماء إله وفي الأرض إله، وقوله: ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم [ولا خمسة إلا هو سادسهم] في أن ذلك كله وما أشبهه متأول على غير ما يفيده ظاهره؛ لأنه سبحانه لا يجوز أن يوصف بالحاجة إلى المكان.(1/49)
وأما قول الملحدين: فالفلاسفة ومن قال بقولهم من الباطنية وأشباههم يزعمون أن العوالم كثيرة منها عالم العقول التي زعموا أنها قبل الزمان والمكان.
ومنهم من يعبر عن تلك العقول بأنهم الملائكة الروحانيون المقربون.
ومنها عالم الأفلاك والأملاك، ومنهم من يعبر عنها بأنها الملائكة الكروبيون.
ومنها عالم الطبائع الأربع التي يسمونها العناصر والأمهات والاستقصآت [والإرادات] والأركان.
ومنها: عالم الكون والفساد،وهو الأرض وما فيها مما يحدث ويفنى ويزيد وينقص، ويحيى ويموت.
[ذكر الخلاف في أصل العالم]
وأما الخلاف في أصل العالم: فقد تقدم ذكر ما زخرفته الفلاسفة في ذلك من الأقوال المبتدعة المتوهمة.(1/50)