وقال عليه السلام: ((إنما أنا رحمة مهداة))، وقد قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107] فقد بيّن صلى الله عليه وآله وسلم أن حديثه وسنته هدى، وأن لا ضلالة على من تمسك به، وإنما معنى قول سفيان رضي الله عنه: الحديث هدى إلا لمن لا يفقهه ويروم إحالته عن حقيقته ويتأوله بغير علم على ما لا يصح ولا يليق به بوجه، فهو لهذا مضلة، فهذا معنى لفظه، والمقصود من اللفظ: المعنى، وهو روحه وسره، وحين أطلق سفيان هذا اللفظ ما منعه من تقييد، والله أعلم، إلا أنه قد علم أنه لا يلتبس على أحد ممن يسمعه إلا أحد من الرعاع الذين لا مبالاة بهم ولا بأمثالهم، ولا يتوهم ذو علم وفهم أنه يعني أن حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سبيل إلى الضلال، ولا أن التمسك به ضلال، فإن اعتقاد هذا بالاجماع ضلال.
نعم ويحتمل أن يريد حين لم يرد في اللفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يريد أن الحديث من أحاديث الناس، أو مما يروون من الموضوعات والإسرائيليات، وأحاديث من قبلنا ممن لا يوافق حكمة الله ولا سنة رسوله مما يروي غير الثقات من الأحاديث الموضوعة والمغيرة عن وجهها فمثل هذا إذا تعلق به الجاهل، لم يؤمن عليه الضلال، وإنما يميزه ويفصل الحقيقة فيه أهل الفقه والعلم، العالمون بكتاب الله، وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من السنة.(1/402)
وهذا وجه أو يكون أراد أن من تأول حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغير حقيقة فقه له ولا صحة فهم بمعناه، ربما أخرجه تأويله إلى الضلالة، ألا ترى إلى قول الحسن البصري لما سأله عن تعلم العربية؟ فقال له حسن: فتعلمها، فإن الرجل يقرأ الآية فيعي بوجهها فيضل، أو قال: فيهوي في النار، وإذا كان من تأول القرآن الذي هو أصل كل هدى بغير فقه ولا علم يخرجه ذلك إلى الضلال، فهكذا يكون حال من تأول حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بغير علم ولسنا بصدد الرد على أهل الأهواء.
فلنرجع إلى العرض فنقول: أصل الحديث راجع إلى القرآن، وإنما هو تفصيل لمجمله فاعتمد على القرآن وما في الصحاح المذكورة، وقس على ذلك جميع ما ورد عليك من الحديث، فما وافقه فلا تتلعثم في قبوله، ولينشرح صدرك له، ولا تستبعد أن يكون في الصحاح المذكورة أصل لكل حديث يرد عليك، أو معنى يقويه أو يضعفه، لكن تحتاج إلى تعاهدها وتذكارها، فإن أهل الحديث قد جمعوا معاني الحديث إلى أحاديث يسيرة حتى قال بعضهم: إن أربعة أحاديث تجمع ذلك على وجه وقع لهم ورأوه، وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((الحلال بيّن والحرام بيّن وبين ذلك أمور مشتبهات، فمن اتقى الشبهات استبرئ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات يوشك أن يواقع الحرام، كالمرتعي حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه...)) الحديث، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من حسن إسلام المرء تركه ما لايعنيه)).(1/403)
وقوله عليه السلام: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله...)) الحديث.
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم لرجل يوصيه وقد سأله أن يوصيه: ((لاتغضب)).
وقال آخرون: بل الواقع قوله لرجل وقد قال له: دلني على عمل إذا عملته أحبني الله، وعمل إذا عملته أحبني الناس؟.
فقال: ((ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما في أيدي الناس، وانبذ إليهم بما في يديك يحبك الناس)).
وقال آخرون: بل الواقع قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((يا أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً، وقال: {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}[البقرة:172]، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك)! فإذا كان هذا هكذا فلا يستبعد أن يكون القرآن أصل العلوم، ثم الصحاح المشهورة أسٌ بيّنا عليها جميع الحديث، فما وافقه فلا تتلعثم في قبوله، وما خالفه ترك من غير أن يحال عن وجهه بتغيير معناه، فإنما الفقيه من أخذ فقهه عن الكتاب والسنة والإجماع، داخل في السنة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد بيّن بسنته أن الأمة لا تجتمع على ضلالة، وهو مأخوذ من القرآن من قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ...}[النساء:115] الآية، انتهى ما ذكره الحافظ رزين.(1/404)
وإذا قد نجز هذا فلنرجع إلى ما نحن بصدده، فنقول: إنه لما كان الأمر كما أسلفنا، ومنَّ الله علينا بهذه الطريق الحسنى، وكانت عامة في جميع العلوم من طرق شتى قد ذكرها مولانا أيده الله تعالى، اتجه أن يذكر شطراً من تلك الطرق، وهي طريق الحاكم عبد العزيز بن محمد بن يحيى بهران رحمه الله تعالى؛ لأنا ظفرنا بطرقه مرقومة بخطه وخط غيره من العلماء الذين حصل له من قبلهم الطرق، وإن كان سائر العلوم الدينية، قد ذكر الإمام المهدي لدين الله أنه يجوز الأخذ فيها بما صنفه العالم وإن لم يحصل تلك الطرق.
قال الفقيه يحيى بن محمد بن حميد في كتاب ( الشموس والأقمار) ما لفظه: وقد تكون الوجادة أبلغ حالة من الإجازة، لا سيما حيث كان في الكتاب أثر التصحيح والضبط والعناية من أهل المعرفة، وقد يقول المحقق: تم قراءةً وتصحيحاً وضبطاً على كذا، فإن هذه النسخة التي هذا حالها أبلغ من أن يقول أجزت لفلان كتاب كذا، ولذلك الكتاب نسخ عديدة لا يتميز صحيحها عن سقيمها، وقد ذكر الإمام المهدي عليه السلام في (المنهاج شرح المعيار) ما معناه: أنه يجوز الأخذ بما صنفه العالم وإن لم يحصل تلك الطرق؛ لأنه لايعمل ذلك الكتاب ويضعه إلا وقد أراد الأخذ بما فيه، والعمل به، بل لا مراد له سواه، لكن إنما يجوز في النقليات بشرط أن يكون ذلك الكتاب قد ضبطت ألفاظه على تلك الصفة حتى لا يتردد في المراد.
وأما العقليات فإنما يعمل بذلك الكتاب حيث طابق ما فيه ما وقر في نظره، فحينئذٍ يكون عملاً بتعلمه لا لو لم يوافق لم يعمل، إذ لا يجوز التقليد فيها، انتهى.(1/405)
قلت: أما حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه يجب أن يؤخذ فيه بأحسن الطرق، ويتحرى فيه مبلغ الجهد بكثرة الطرق لما أسلفنا.(1/406)