وهذا غاية التساهل، فإن الأولى الإعتناء في حديث النبي صلى الله عليه وعلى آله الصحيح منه والساقط، فإنهم يحتجون بالحديث في تحليل أو تحريم، ولا يبحثون عن صحته، ومن رواه مع ما في هذا من الخطر العظيم، وأنت ترى فقهاء العامة لا يلتفتون إلى أقوالهم ولا يعولون عليها، بل لا يبعد أنهم يدعون الإجماع مع إجماع الزيدية على خلاف ما ذكروا.
ولنا سلف بحمد الله صالح لاتجد لفقهاء العامة مثله، يروون الحديث عن الآباء والأجداد الطاهرين عن سيد المرسلين، لا يشاركهم فيه مشارك إلا من عرفوا عدالته من شيعتهم الأخيار كزيد بن علي عليه السلام، ومحمد الباقر، وجعفر الصادق، والإمام أحمد بن عيسى، والقاسم بن إبراهيم، والهادي يحيى بن الحسين "، ومحمد بن منصور المرادي، والمؤيد بالله، وأبي طالب وغيرهم، فهم قد اتخذوا من طرق الحديث أبهجها وأحسنها.(1/397)


قال السيد الهادي بن إبراهيم أعاد الله من بركاته في كتاب (هداية الراغبين إلى مذهب العترة الطيبين): وصنف زيد بن علي (مجموع الفقه)، وهو: أول من صنف من العترة النبوية وبوّب في الفقه أبواباً، وتكلم عليها، وليس بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وعلى آله إلا ثلاثة: أبوه، وجده الحسين بن علي، وأمير المؤمنين عليه السلام، فهو يروي عن زين العابدين وأبوه عن أبيه سبط سيد المرسلين، وهو عن أبيه خاتم الوصيين الأنزع البطين، فمن أولى بالتقليد والاتباع في الدين؟ من لم يكن بينه وبين صاحب الشريعة إلا أبوه وجده وجد أبيه ثلاثة، اثنان معصومان، والثالث قريب من العصمة، أم غيره من علماء الأمة؟! لولا قلة الإنصاف وأخلاف الخلاف!!، فلينظر الناظر لنفسه، وقد ذكرنا من حديث الباقر بن محمد بن علي عليهما السلام تعظيمه لزيد، وأنه كان يقول فيه: هذا والله سيد بني هاشم، وقصته معه في كتاب أبيه الذي كان طلبه منه وأنه استغنى عنه بكتاب الله.
وفي بعض كلام الباقر دليل عظيم على علم زيد -عليهما السلام-، وأن الباقر إنما سمي بهذا الإسم لتبقره في العلم، والتبقر: التوسع، فإذا اعترف الباقر لزيد بالسيادة فقد اعترف له بالريادة عليه في العلم بقوله لأبي خالد وأبي حمزة، وقد تقدم ذكرهما: يا أبا خالد، ويا أبا حمزة إن زيداً أعطي من العلم علينا بسطة، فصح بإقراره عليه السلام واعترافه أن زيداً كان أعلم منه وأفضل، فما ظنك برجل فاق الباقر فضلاً وعلماً، واعترف بفضله وصحة إمامته أبو حنيفة أكثر الأمة فهماً.(1/398)


قال الذهبي في ترجمة جابر الجعفي: أنه حفظ عن الباقر سبعين ألف حديث، فانظر إلى سعة علمه عليه السلام، وانظر إلى سعة علم زيد حيث يقول الباقر: هو أعلم منه صلوات الله عليهما، انتهى بلفظه.
قلت: ولم يخل زمان من قائم من أهل البيت " يعلن الحق ويظهره، ويمحو الباطل ويطمسه، لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((لاتزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين))، والمراد به أهل البيت لما صح من الأخبار المشهورة والمتواترة مثل قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبداً كتاب الله وعترتي أهل بيتي، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق وهوى)).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((النجوم أمان لأهل السماء، فإذا ذهبت النجوم أتى أهل السماء ما يوعدون، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض فإذا ذهب أهل بيتي من الأرض أتى أهل الأرض ما يوعدون)) إلى غير ذلك، فقد دلت هذه الأخبار على عدم خلو الزمان منهم، فما ظنك بمن علمه هو: العلم، واتباعه هو: النجاة، وسنده أصح الأسانيد.
قال العلماء: إن الله لما خلق الدنيا بأسرها من أجل محمد صلى الله عليه وآله وسلم جعل دوامها بدوامه، ودوام أهل بيته ".(1/399)


والذي يدل على نجاتهم ونجاة من اتبعهم أدلة كثيرة من الكتاب مثل: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}[الأحزاب:33]، ومثل: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا}[فاطر:32] وهم: أهل البيت؛ لأنه مجمل بينه: (( إني تارك فيكم...))الخبر، ونحوه وغير ذلك من الآيات.
وأما الأحاديث فكثيرة.
روى مولانا أمير المؤمنين أيده الله تعالى في كتاب (الإرشاد) عن الديلمي رحمه الله تعالى أنه قال: الأحاديث التي من روايات الفقهاء المتفق عليها يعني في أهل البيت ": ألف وستمائة وخمسة أحاديث غير ما ذكره أهل البيت " وشيعتهم رضي الله عنهم، منها ستمائة وخمسة وثمانون حديثاً تختص بعلي عليه السلام، وتسعمائة وعشرون تختص بالعترة "، كل واحد منها يدل على إمامتهم وفضلهم على سائر الناس.
وروى أيده الله تعالى عن المنصور بالله عليه السلام أنه قال ما معناه: الأحاديث فيهم " من رواية الموالف والمخالف قربت من ألفي حديث.
فهذا تنبيه لطيف وإشارة يسيرة ترشدنا إلى أن أهل البيت " لايحتاج من اتبعهم إلى علم غيرهم؛ لأن علمهم دين كامل كافل بنيل السؤل والمرام، فمالنا والتلذذ حول علم غيرهم والاحتجاج بحديث غيرهم ".
وقد روى النجري في مقدمة شرح البيان عن أبي طالب -عليهما السلام- ما معناه أنه قال: كيف يحتج علينا بحديث من يستحل قطع رقابنا؟
فينبغي للإنسان أن لا يقتبس إلا من نورهم، ولا يهتدي إلا بهديهم، وأن لايغره الشيطان بأن يقول: إنهم ليس لهم عناية في علم الحديث.(1/400)


ولا أقول لك إنك لا تذكر حديث غيرهم رأساً، فينبغي ذكره زيادة في تأكيد الحجة، واستعانة على دحض الخصم بحديثه الذي يصح عنده، وهذا مقصد مهم، وإنما أردت بقولي لك أولاً أنك لا تجعل حديثهم أصلاً في دينك ترجع إليه وترجحه على حديث أهل البيت "، فافهم أيها المسترشد موفقاً.
واعلم: أنه يجب عليك التفهم لكتاب الله تعالى وما صح لك من الأخبار حتى إذا ورد عليك شيء من الحديث عرضته على ذلك، فإن وافقه ولو بتأويل من غير تعسف قبل، وإلا أطرح، وعند ذلك يسهل عليك عبور هذا الميدان والدخول في هذا الشأن.
ولقد تكلم في ذلك الفقيه الحافظ رزين بن معاوية الأندلسي بكلام يشفي الأفئدة من الأوام، ويذهب عنها حزة الاضطرام، ذكره في أول كتاب (تجريد الصحاح)، قال ما لفظه: واعلم أنه كما يحتج طائفة بأن هذا ليس في الصحيح، فكذا تحتج طائفة أخرى لما يرومون به الانحلال من الصحيح وغيره بنحو ما روي عن سفيان بن عيينة من قوله: الحديث مضلة إلا للفقهاء.
ولعمري لقد صدق على الوجه الذي قصده لا على الوجه الذي تأولوه هم عليه.
نعم: وأيضاً فلو كان مما ليس له إلا وجه واحد يحمل عليه لما كان ينبغي أن يجعل قول أحد في مقابلة قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا معترضاً عليه، ولو ارتفع ما ارتفع في علمه وزمانه، وكيف وقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله)).(1/401)

80 / 85
ع
En
A+
A-