[طريقة أهل البيت في علم الحديث]
كان من جملة ما ذكره لي وأوصاني به أن قال: إنما في علم الحديث ويكون الاعتماد على حديث القدماء من أهل البيت، إذ طريقهم فيه الطريقة المعتمدة حيث كان عمدتهم على طلب اليقين وترك الظن الذي لا يغني من الحق شيئاً.
قال عليه السلام: واعلم أن الحديث على خمسة أقسام:
الأول: المتواتر.
والثاني: المتلقى بالقبول، وهو: ما يتفق عليه أئمتنا والصحاح الستة للفقهاء.
الثالث: الأحادي، الذي يشهد له الكتاب إما بنص أو قياس، وهذه الثلاثة هي المعتمدة.
الرابع: الأحادي المصادم للكتاب، أو المتواتر، فهذا حقيق بالإطراح.
الخامس: الأحادي الذي لم يشهد له الكتاب ولا خالفه، فهذا لا يعتمد عليه لما قد علمنا من وقوع الكذب في الحديث ممن لانرضى طريقته.
ولما ذكر لي هذا الخطاب الذي أتى فيه بما يروق ويستطاب، سكن لذلك خاطري، وقر بذلك ناظري، فقلت له: أريد منكم ترسمون لي إجازة فيما قد حصل لكم فيه من طرق السماع وغيرها من الطرق المعتبرة، وما قد جمعتموه من كتب وجوابات.
فقال لي مشافهاً: قد أجزت لك جميع ما قد حصل لي فيه من الطرق المعتبرة، حسبما هو موضوع في كتاب (الإجازة) المسمى (كتاب إجازة المنصور بالله) وفيه إجازات عديدة من العلماء، منها ما يستند إلى الإمام شرف الدين عليه السلام كإجازته لمحمد بن يحيى بن بهران، ومحمد بن علي بن عمر الضمدي وغيرها، ومنها: ما سنده إلى غيره، وكذلك جميع ما قد ألفته من كتب وجوابات.(1/392)
ثم إنه صلوات الله عليه قد كان أجاز لي قبل هذا التأريخ مثل هذه الإجازة، أعني بالعموم الشامل، ونص على كتب منها: كتاب (شفاء الأوام) بعد أن كنت قد قرأت عليه أيده الله تعالى قطعة منه، ولله الحمد، ونسأله تمام سماعه.
ومنها: كتاب (البحر)، ومنها: كتاب (الأساس)، و(الإرشاد)، و(التحذير)، و( جواب مسائل عبد الجبار).
واشترط عليَّ في إجازته مطلقاً ما يشترطه العلماء من حسن التأدية والضبط فالتزمت ذلك.
هذا من فضل الله علينا وعلى الناس، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ}[غافر:61].
واعلم: أن مولانا وإمام زماننا أيده الله تعالى قد أحيا الله به ما اندرس من معالم علم آبائه وأجداده الذين هم سفن النجاة، وله من العناية بسائر العلوم والتحري في طرقها ما ليس لأحد من أبناء زمانه مثله، سيما علم الحديث الذي كاد يندرس في البلاد وتنطمس معالمه مع شدة الحاجة إليه، وكثرة الاعتماد عليه، وهو يفتقر إلى تصحيح الرواية، لما قد وقع من التحريف والكذب على النبي صلى الله عليه وآله.(1/393)
نقلت من خط مولانا أمير المؤمنين أيده الله تعالى ما لفظه: المروي عن النبي صلى الله عليه وآله من الأخبار غير مصون من إفك المنافقين، ووضع الفاسقين، ووهم الواهمين، ثم من حشو الملاحدة وأهل البدع والأهواء من المارقين الخوارج، وعتاة النواصب، وغلاة الروافض، وطغام المجبرة والمشبهة، وهمج القصاص والوعاظ والحشوية، وأغتام الظاهرية، والكرامية، والخطابية، وغيرهم مما لا أحصي كثرة من المسترسلين في وضع الأخبار من عوام المتفقهين، ونساك المتعبدين والمتصوفين الذاهبين إلى قبول المجهولين.
قال شعبة: لم يفتش أحد عن الحديث تفتيشي، فوجدت ثلثي ما وجدت منه كذباً.
وقال ابن المعتز: كذبنا عن الكذابين، ولقد تسامح من ينظر إليه في أحاديث الترغيب والترهيب، واعتمد من يعتمد على قوله في وجوب العمل بما ظن صدقه، مع أن المعلوم عقلاً أن الظن يخطئ، ومع قوله تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً}[النجم:28] وقوله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ}[الحجرات:12].
وروى أيده الله تعالى عن مقدمة (جامع الأصول) ما لفظه: قال شيخ من شيوخ الخوارج بعد أن تاب: إن هذه الأحاديث دين فانظروا عمّن تأخذون دينكم، فإنا كنا إذا هوينا أمراً صيّرناه حديثاً.(1/394)
وما ذكرناه فهو حاصل في زمن الصحابة أعني من التحريف والكذب على النبي صلى الله عليه وعلى آله، خلافاً لابن الصلاح؛ لأنه قال في النوع التاسع والثلاثين من كتاب (معرفة أنواع علم الحديث) للصحابة بأسرهم خصيصة، وهي: أنه لا يسأل عن عدالة أحد منهم، بل ذلك أمر مفروغ منه؛ لكونهم على الإطلاق معدلين بالكتاب والسنة، وإجماع من يعتد به في الإجماع من الأمة، قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}[آل عمران:110] وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}[البقرة:143] وقال سبحانه:{مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح:29].
قال: وفي نصوص السنة الشاهدة بذلك كثرة كحديث أبي سعيد المتفق على صحته أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((لاتسبوا أصحابي...)) الخبر.
قال: ثم إن الأمة مجمعة على تعديل جميع الصحابة ومن لابس الفتن منهم كذلك بإجماع العلماء الذين يعتد بهم في الإجماع.(1/395)
قال مولانا أمير المؤمنين أيده الله تعالى: وهلاّ تلا ابن الصلاح قوله تعالى: {مَرَدُوا عَلَى النّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ...}[التوبة:101] الآية، وقوله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ...}[آل عمران:152] الآية، مع قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا...}[هود:15] الآية، وهل يذكر ما روى هو في الصحاح قوله صلى الله عليه وآله في أصحابه الذين يردون الحوض فيجلأون عنه، فيقال: إنك لاتدري ما أحدثوا بعدك، وأين إجماع الأمة على التعديل مع استحلال دماء وقعة الجمل وصفين والنهروان دماء بعضهم بعضاً؟ اللهم إلا أن يخرج أولئك عن الأمة، وكيف وهم كانوا هم الأمة؟ ثم مَنْ هؤلاء الذين يعتد بإجماعهم دون من سواهم إن كان بدليل خاص فليبرزه فهو في محل الاحتجاج الذي لا يقتصر فيه على مجرد الدعوى، ثم إن المخالفة أن تدعي خلاف ما أدعي، ثم لا تكون أيهما أولى بصحة دعواه من الآخر!
هذا جوابه عليه السلام على ابن الصلاح، ولقد أجاد وأفاد، فتأمله، فهو يدفع عنك زخارف أهل العناد.
هذا وإن أصحابنا المتأخرين قد سلكوا في كتبهم الفقهية طريقاً كان الأولى لهم والأجدر بحالهم أن يسلكوا طريقاً غيرها، وهي: أنهم يعتمدون على نقل أقوال مخالفيهم من فقهاء العامة ويملأون كتبهم بكثرة أقوالهم حتى أنهم يذكرون للعالم أقوالاً عديدة، ويعدون ذلك مفخراً عظيماً!(1/396)