وقال علي عليه السلامفي خطبته المشهورة المعروفة ب‍(القاصعة): (فإن الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم) .
وإياكم ومتابعة من اشتدّت رغبته في الدنيا، فقد قال الهادي عليه السلامفي (كتاب الخشية) ما لفظه: (ومن اشتدت رغبته في الدنيا طلب لنفسه التأويلات [الكاذبات، ومن طلب لنفسه التأويلات الكاذبات]، تقحم بلا شك في المهلكات، وكان عند الله من أهل الخطيئات).
قلت وبالله التوفيق: ومن الدليل على صحة ما قاله الهادي عليه السلام، قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[هود:15،16].
وما رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي) بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث طويل: ((ألا وإنه من رغب في الدنيا وطال فيها أمله أعمى الله قلبه على قدر رغبته فيها)).
قلت وبالله التوفيق: ومعنى ذلك أن الله تعالى يخذله ويسلبه الألطاف، ويكله إلى نفسه، فيكون سيقة للشيطان يعمل بالشبهات، ويطلب بصرائح الأدلة من التأويلات حتى يردها إلى ما يطابق هواه، ويصلح له دنياه.(1/377)


وما قاله أمير المؤمنين عليه السلامفي كلام طويل، كلّم به كميل بن زياد، وهو قوله: (أو منهوماً باللذة، سلس القياد للشهوة، أو مغرماً بالجمع والادخار، ليسا من رعاة الدين في شيء، أقرب شيء شبهاً بهما بالأنعام السائمة) ، ولا يقولوا بعد تبيين الحق ووضوحه نعمل بخلاف هذا، ونجعل بيننا وبين النار عالما، فإني أخاف أن يكون ذلك شركاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سئل عن قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}[التوبة:31].
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا يُحلّون لهم ما حرم الله عليهم فيستحلونه، ويُحرمون عليهم ما أحلّ الله لهم فيحرمونه)) رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي) .
قلت وبالله التوفيق: وهذا [الحديث صحيح] لموافقته لقوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}[الأنعام:121].
ووجه كونهم مشركين أنهم قد تقلّدوا حكماً والتزموه، وعبدّوا له أنفسهم؛ امتثالاً لمن شرعه لهم وابتدعه، وهو غير الله سبحانه، فقد جعلوا لله شريكاً في تشريع الشرائع!! وذلك بحمد الله واضح.
وقوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ}[الأنعام:121] نص صريح على ذلك.(1/378)


ولا يقل أحدكم: إن الذي أعطيته كمجة في لجة، فلا يكون مؤثراً في إعانتهم؛ لأنا نقول وبالله التوفيق: إن الإجماع المعلوم بين الأمة أن المشاركة في ارتكاب المعصية محرم بل ذلك معلوم من الدين ضرورة، وفاعل ذلك مشارك ضرورة، وأيضاً لو كان ذلك عذراً للواحد لكان عذراً للجميع؛ لأن لكل واحد أن يقول ذلك وإلا كان تحكماً، وجميع ما تقدم يشهد ببطلانه، ولا تقولوا: إن الأمر مشتبه علينا؛ لأنا لا نعلم صحة هذا القول، ولا صحة ما يخالفه فنداري على دنيانا، ولعل الله لا يؤاخذنا بما لا نعلم؛ لأنا نقول وبالله التوفيق: إن الأدلة القطعية تقضي بتحريم العمل بالمشتبه، قال الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولا}[الإسراء:36].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((بئس القوم قوم يستحلون الشهوات بالشبهات))، رواه أبو طالب عليه السلامفي (الأمالي) في حديث طويل.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((دع ما يريبك إلى ما لا يريبك))، رواه الأمير الحسين عليه السلام في (الشفاء) .
ونحو ذلك من الأحاديث كثير حتى تواتر معنىً، وأفاد العلم قطعا.
وقال علي عليه السلام في بعض خطبه: (ولا ترخصوا لأنفسكم فتذهب بكم الرخص مذاهب الظلمة).
وقال عليه السلام: (إن العامل بغير علم كالسائر على غير طريق فلا يزده بعده عن الطريق إلا بعداً عن حاجته) وقد تقدم ذلك.
وقال المنصور بالله عليه السلام: (تتبع الرخص زندقة).(1/379)


وفي (الغيث) ما معناه: (أنه يحرم تتبع الرخص اتباعاً للهوى إجماعاً)، وكذلك في (الفصول)، وهذا من تتبع الرخص اتباعاً للهوى؛ لأنه عمل بالأخف اتباعاً لما تهواه النفوس من الاستصلاح لدنياهم، يريدون بذلك الراحة، وما أبعدها!!
أما في الآخرة فإنه ليس لمن عصى الله ومات مصراً على ذلك عند الله إلا العذاب الأليم، وأما في الدنيا فقد قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[الأنعام:129].
ومعنى الآية: أن الله يسلط الجبابرة على من عصاه حتى لا تتم لهم راحة.
وروي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أنه قال ما لفظه أو معناه: ((من حاول أمراً بمعصية الله تعالى كان أفوت لما رجا وأقرب لمجيء ما اتقى)).
وقال علي كرم الله وجهه في الجنة في (نهج البلاغة): (لا يترك الناس [شيئاً] من دينهم لاستصلاح دنياهم إلا فتح الله عليهم ما هو أضر منه، أيها الناس لا تستوحشوا في طريق الحق لقلة أهله، ولا يجرمنّكم استحقار أهل الزمان للعاملين به أن لا تعملوا به، ولا تستهوينكم الدنيا فتؤثروها على الآخرة، وقد قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:37-39]، اذكروا انقطاع اللذات وبقاء التبعات، وانظروا في أثر الماضين واستنطقوها عن أخبارهم تخبركم والله بلسان الحال، إنهم أفردوا عن دنياهم إلى القبور وتركوا ورائهم الذخائر والقصور، فلم يدفع عنهم شيئاً مما نزل بهم من معضلات الأمور، وعلموا بعد ذلك أنه لاينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.(1/380)


قال أمير المؤمنين كرم الله وجهه في الجنة في بعض خطبه: (ألا وإن هذه الدنيا التي أصبحتم تتمنونها وترغبون إليها وأصبحت تغضبكم وترضيكم ليست بداركم، ولا منزلكم الذي خلقتم له، ولا الذي دعيتم إليه، ألا وإنها ليست بباقية لكم، ولا تبقون عليها، وهي وإن غرتكم فقد حذرتكم شرها، فدعوا غرورها لتحذيرها، وأطماعها لتخويفها، وسابقوا فيها إلى الدار التي دعيتم إليها، وانصرفوا بقلوبكم عنها، ولا يخنن أحدكم خنين الأمة على ما زوي عنه منها، واستتموا نعمة الله عليكم بالصبر على طاعة الله والمحافظة على ما استحفظكم من كتابه، ألا وإنه لايضركم تضييع شيء من دنياكم بعد حفظكم قائمة دينكم، ألا وإنه لا ينفعكم بعد تضييع دينكم شيء حافظتم عليه من أمر دنياكم).
وقال علي عليه السلامفي خطبة أخرى: (وأيم الله ما كان قوم قط في غض نعمة من عيش فزال عنهم إلا بذنوب اجترحوها؛ لأن الله ليس بظلام للعبيد).
قلت وبالله التوفيق: ومما يشهد بصحة ذلك قوله تعالى: {أَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال:53] أفلا تخافون زوال دنياكم لذنوبٍ قوّمتم بها عمود الجور والفساد، وأقمتم بها رايات الضلالة وجعلتموها أساساً لحزب الشيطان! فتصبحوا لا دنيا ولا آخرة!(1/381)

76 / 85
ع
En
A+
A-