قلت والله المستعان: إن الذين يقتدى بهم من أهل زماننا يقولون بنقيض ما قال أمير المؤمنين عليه السلام، يقولون ما معناه: ادفعوا أيها الناس إلى الظالمين ما يتقوّون به على الجور، وأنتم من مكر الله آمنون، وبأهل رضاه لاحقون، ولا تلتفتون إلى ما يقول هؤلاء الذين قد اقتحمتهم العيون، وحقرتهم القلوب، وما عسى أن يكونوا قد بلغوا في العلم! ونحن أكثر منهم قدراً، وأقدم منهم عمرا، قد حفظنا الأقاويل، وأتقنّا التأويل، وأحسنَّا التعليل، فإنه لا يجب عليكم ترك تسليم الأموال إليهم فضلاً عن النكير عليهم إلا عند الأمان على الطارف والتلاد، وما افترقتموه في البلاد لتعودوا به على الأهل والأولاد، وتستعينوا به على مسألة الحاضر والباد.(1/372)


قلت وبالله التوفيق: كأنهم لم يسمعوا قول الله تعالى [حيث قال:] {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ}[التغابن:15] وحيث قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً}[الكهف:46] وحيث قال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[هود:15،16] وحيث قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:37-39] وحيث قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ...} إلى قوله: {الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[التوبة:24] وحيث قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّ هُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ، نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لاَ يَشْعُرُونَ}[المؤمنون:55،56].(1/373)


وحيث قال: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[الأعلى:16،17] مع إقرارهم بأنهم ليسوا بمجتهدين، ولا بطريق الاستدلال عارفين، ولا من نصوص أئمتهم لذلك آخذين، وقد قال تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[البقرة:168،169].
وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ...} إلى قوله تعالى: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}[الأعراف:33].
وقال تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ}[الأنعام:119].
وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أعان على خصومة بغير علم كان في سخط الله حتى ينزع))، رواه أبو طالب عليه السلام في (الأمالي).
وقال علي عليه السلام: (لايفتي الناس إلا من قرأ القرآن، وعلم الناسخ والمنسوخ، وَفِقهَ السنة، وعلم الفرائض والمواريث) رواه زيد بن علي عليه السلام في (مجموعه).(1/374)


وقال عليه السلام في (نهج البلاغة): (وإن العامل بغير علم كالسائر على غير الطريق، فلا يزيده بُعْدُه عن الطريق إلا بُعْداً من حاجته، والعامل بالعلم كالسائر على الطريق الواضح)، مع ما في ذلك من خطر الاستمرار، كما في قوله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاءَ مَا يَزِرُونَ}[النحل:25].
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من أحيا سنة من سنتي قد أميتت من بعدي فله أجر من عمل بها من الناس لا ينقص ذلك من أجور الناس شيئاً، ومن ابتدع بدعة لا يرضاها الله ورسوله كان عليه إثم من عمل بها لا ينقص ذلك من إثم الناس شيئاً))، رواه الهادي عليه السلامفي (الأحكام).
وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما كان يظن أنها تبلغ ما بلغت، فيكتب له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما كان يظن أنها تبلغ ما بلغت فيكتب له بها سخطه إلى يوم يلقاه))، رواه الهادي عليه السلامفي (الأحكام) أيضاً.(1/375)


أيها الناس: اعرفوا الحق تعرفوا من لزمه فاهتدى بهديه، واستضاء بنوره، واعرفوا الباطل تعرفوا من لزمه فضل بضلاله وارتطم في ظلماته، فقد قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ الله وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ}[الزمر:17،18] وقال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً}[الإسراء:36].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن هذا العلم دين فانظروا عن من تأخذون دينكم))، رواه أبو طالب " في (الأمالي).
وقال أمير المؤمنين عليه السلام في (نهج البلاغة): (فإنما البصير من سمع فتفكر، ونظر فأبصر، وانتفع بالعبر، ثم سلك جدداً واضحاً، يتجنب فيه الصرعة في المهاوي والضلال في المغاوي، ولا يعين على نفسه الغواة بتعسفٍ في حق، أو تحريف في نطق، أو تخوف من صدق)، ولاتنظروا إلى أحوال الرجال، فقد قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}[القصص:83].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((كم من عاقل عقل عن الله أمره وهو حقير عند الناس، ذميم المنظر، ينجو غداً، وكم من ظريف اللسان جميل المنظر عند الناس، يهلك غداً في القيامة))، رواه أبو طالب عليه السلامفي (الأمالي) .(1/376)

75 / 85
ع
En
A+
A-