فالجواب والله الموفق للصواب: أن ذلك لما علم الله سبحانه وتعالى أن {مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ الله عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ}[الحج:11] كما أخبر الله في كتابه العزيز، جعل ذلك بليّة ليُمحّص الله الذين آمنوا حتى يحصل منهم ما يستوجبون به الثواب الجزيل والسلامة من العذاب الأليم من الصبر على بلاء الله والرضا بما قسم الله، ويمحق الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، حتى يحصل منهم ما يستوجبون به النكال والخلود في النار من عدم الصبر على بلاء الله وترك الرضا بماقسم الله، والانقلاب على الأعقاب.
فإن قيل: إنك قد ذكرت أن الله سبحانه يوسع على المهاجرين في سبيل الله، واحتججت بالآيتين المتقدم ذكرهما، وذكرت هنا أنه قد يقع القصور في المعيشة ابتلاءً من الله تعالى.
قلت وبالله التوفيق: إن المعنى في ذلك أن الله تعالى متى علم وقوع الصبر على بلائه والرضا بقسمته وسع على عبيده المخلصين ليجمع لهم بين النعمتين الثواب على الصبر والرضا، والتوسعة في الأرزاق في الدنيا، فيكون جمعاً بين خيري الدنيا والآخرة.(1/367)


والذي يدل على صحة هذا التأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلاََجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل: 41،42] [فقال تعالى: {الَّذِينَ صَبَرُوا}]وليس الصبر إلا على ما يتحمل من المشاق، وذلك منها، فتأمل.
وقوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}[آل عمران:146] إلى قوله تعالى: {فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران:148] فقال تعالى: {فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ} والفاء للتعقيب، والمعنى: أن الله سبحانه آتاهم ذلك بعد الصبر، وأيضاً أن من المعلوم لمن بحث في السير أن المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقع لهم الرخاء إلا بعد الشدة والبلاء، شهد بذلك قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ... الآية}[البقرة:214].(1/368)


وقال علي عليه السلامفي بعض خطبه: (فمن أخذ بالتقوى عزبت عنه الشدائد بعد دنوها، واحلولت له الأمور بعد مرارتها، وانفرجت عنه الأمواج بعد تراكمها، وأسهلت له الصعاب بعد انصبابها، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها، وتحدبت عليه الرحمة بعد نفورها، وتفجرت عليه النعم بعد نضوبها، ووبلت عليه البركة بعد إرذاذها) .
وقالوا: إن أكثر الناس على ذلك، ومن البعيد أن يكونوا على الخطأ، ومن لا يكاد يوجد إلا على سبيل الندرة على الصواب!
قلت وبالله التوفيق: قد تبين بحمد الله الحجة على ذلك من الكتاب والسنة، وإجماع العترة " والعقل أيضاً قاضٍ على أن الإعانة على القبيح قبيحة، والكثرة لا تأثير لها في إبطال حجج الله سبحانه لا سيما وقد قال تعالى:{وَمَا وَجَدْنَا لأَِكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف:102] وقال تعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِين}[يوسف:103] وقال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}[الأنعام:116].
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً))، ولعل هذا الخبر لا خلاف في صحته، وهو في (الأمالي) لأبي طالب بإسناده إلى جابر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه زيادة، وهي قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((فطوبى للغرباء)) قيل: ومن هم يارسول الله؟ قيل: ((الذين يَصْلَحون عند فساد الناس)).(1/369)


وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((بعثت بين جاهليتين أخراهم أعظم من أولاهم))، رواه الإمام القاسم بن إبراهيم عليه السلامفي (المسائل)، والأمير الحسين عليه السلامفي (الشفاء) في كتاب الزكاة.
وقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((تكردس الفتن في جراثيم العرب حتى لايقال الله، ثم يبعث الله قوماً يجتمعون كما يجتمع قزع الخريف، فهنالك يحيي الله الحق ويميت الباطل))، رواه الهادي عليه السلامفي (الأحكام).
وقال علي عليه السلام: (يوشك الناس أن ينقصوا حتى لا يكون شيء أحبَّ إلى امرءٍ مسلمٍ من أخٍ مؤمن أو من درهم حلال وأنّى له به)، رواه زيد بن علي عليه السلامفي (مجموعه).
وقال عليه السلام في (نهج البلاغة): (أيها الناس سيأتي عليكم زمان يكفأ فيه الإسلام كما يكفأ الإناء بما فيه).
وقالوا: إذا كانت الهجرة لأجل ذلك واجبة، فأين يسع الناس مع إطباقهم عليه وكثرتهم؟.(1/370)


[متى تكون الهجرة واجبة]
قلت وبالله التوفيق: إن الهجرة لا تجب إلا عند إصرار الأكثر وتماديهم على ذلك لا إذا اعترفوا بكون ذلك باطلاً، ورجعوا إلى الله وتابوا، إذ لو حصل منهم لذبّوا عن دينهم، وكانت الهجرة حينئذٍ إليهم؛ لأن من المعلوم أنه لولا تقوية الأكثر للظالمين بما يسلمون إليهم من الأموال لما استقامت لهم دولة، وذلك بحمد الله واضح، وكذلك أنا نعلم لولا تخاذلهم لما استولى ظالم على قطر من أقطار المسلمين، لكنهم تخاذلوا ولم يعملوا بقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي}.
ولله در أمير المؤمنين عليه السلامحيث قال في بعض خطبه: (أيها الناس، إنه لابد من رحى ضلالة تطحن ألا وإن لطحنها دوياً، ألا وإن على الله فلّها، ألا وإنه لا يزال البلاء بكم من بعدي حتى يكون المحب لي والمتبع لأثري أذل بين أهل زمانه من فرج الأمة ولم ذلك؟ ذلك بما كسبت أيديكم، ورضاكم بالدنيّة في الدين، ولو أن أحدكم إذا ظهر الجور من أئمة الجور باع نفسه من ربه، وأخذ حظه من الجهاد لقام دين الله على قطبه...، الدنيا الفانية، ولرضيتم من ربكم فنصركم).(1/371)

74 / 85
ع
En
A+
A-