[وصف أمير المؤمنين لأقوام آخر الزمان]
لله أبوهم ألا يخافون أن يكونوا آباءهم! عنى أمير المؤمنين عليه السلام في قوله: (يكون في آخر الزمان قوم نبغ فيهم قوم مراءون فيتقرأون ويتنسكون لا يوجبون أمراً بالمعروف ولا نهياً عن المنكر إلا إذا أمنوا الضرر، يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير، يتبعون زلات العلماء، وما لايضرهم [من نفس أو مال]، فلو أضرت الصلاة والصيام وسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها، وقد رفضوا أسنم الفرائض، وأشرفها: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فريضة عظيمة، بها تقام الفرائض، ألا إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سبيل الأنبياء، ومنهاج الصالحين، فريضة بها تُقام الفرائض، وتُحل المكاسب، وتُرد المظالم، وتُعمر الأرض، ويُنتصف من الأعداء، فأنكروا المنكر بألسنتكم وصُكّوا بها جباههم، ولا تخافوا في الله لومة لائم.
وأوحى الله عز وجل إلى نبي من أنبيائه: أني معذب من قومك مائة ألف، أربعين ألفاً من شرارهم، وستين ألفاً من خيارهم، فقال: يارب هؤلاء الأشرار، فما بال الأخيار؟ قال: ((داهنوا أهل المعاصي ولم يغضبوا لغضبي))، روى ذلك أبو طالب عليه السلام في (الأمالي).
وإنما خشيت أن يكونوا إياهم، عنى أمير المؤمنين عليه السلامبذلك؛ لأنهم رخّصوا في تسليم ما يقوي على ترك المعروف وفعل المنكر؛ طلباً لصيانة أموالهم فضلاً عن أن يقولوا بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتأمل.(1/362)


واعلم أنهم لم يستندوا في عذرهم ذلك إلى دليل، ولا إلى أحد من علماء العترة "، وما ذاك إلا لأن الأدلة قاضية ببطلان ما تمسكوا به كما رأيت؛ ولأن العترة " مجمعون على أن ذلك غير رخصة كما حكاه علي بن العباس فيما مضى، وقال بإفساد الغلاّت، وخراب القرى لئلا ينتفع بها العدو، وكذلك قد صح لنا من عيون العترة " والجمهور من علماء الأمة أن الخشية على المال لا تكون رخصة في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما تقدم ذكره، فكيف تكون رخصة في عماد المنكر وأساسه! وهو تسليم المال إلى الجبارين، فافهم ذلك. وأيضاً لو غلب بعض الجبارين على بعض المسلمين، وقال لا عذر لك من أحد أمرين:
إما الاستمرار على ترك الصلاة، أو إفساد جميع ما تملك، وهو يعلم أنه لو أفسد أملاكه أنه يعيش بأن ينتقل في الأرض لطلب المعاش، لعلمنا أنه إن اختار الاستمرار على ترك الصلاة لصيانة دنياه، فقد آثر الحياة الدنيا على الآخرة، وكان من جملة من ذكره الله تعالى في قوله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى، وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات:37-39]، ولا يخرج من هذا ممن ابتلي بذلك إلا من لم يصنع كذلك، والإجماع المعلوم على ذلك، وكذلك والله أهل زماننا فإنهم تركوا نهي الجبارين عن المنكر، وهم يقدرون عليه، لولا تخاذلهم بل أمدّوهم بالأموال الجليلة التي تقوّوا بها على فعل المنكر صيانة لدنياهم وإيثاراً لها، وأنه لولا تخاذلهم لم يكن شيء من ذلك، ولعاشوا فلا يخرج من حكمهم هذا إلا من باينهم ولم يصنع كما صنعوا وإلا كان مشاركاً لهم في ذلك ضرورة.(1/363)


وقالوا: لو هاجرنا لانتفع الظالمون بالمال بعدنا، فلم تؤثِّر هجرتنا إلا التعب!
قلت وبالله التوفيق: الواجب إفساد المال كما تقدم ذكره لئلا ينتفع به الظالمون، والدليل على ذلك قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة:2]، وترك إفساده معاونة لهم؛ لأن المعلوم أنهم ينتفعون به، وكذلك إجماع العترة " المقدم ذكره كذلك دليل عليه، فإن لم يتمكن من إتلافه ترك لهم، وما استعانوا به منه بعد إذٍ فلا يؤآخذ به؛ لأنه لم يدخل في تحت وسعه ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وليس ذلك بمرخص في بقائه، والدخول تحت طاعتهم؛ لأن انتفاعهم به أهون من انتفاعهم بما يستمر من تسليم الأموال إليهم؛ لأن ما يستمر غير منقطع، وذلك منقطع ولا شك، إنما يتقوّون به على المنكر، وينقطع أهون من الذي يتقوّون به عليه ويستمر.
فإن قيل: فإن منها ما يستمر كالمزارع؛ لأنه يأتي من يزدرعها ويستمر تسليمه إليهم من غلاتها!
قلت وبالله التوفيق: قد ثبت بما تقدم أن تسليم الأموال إليهم محرم من أرباب المزارع كان أو من غيرهم، والإثم على فاعله؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}[الأنعام:164] أي: لا يحمل مذنب ذنب مذنب غيره، فلما كان كذلك علمنا أن الذنب على من يزرعها، ويسلم إليهم من غلاتها دون من تجنب ذلك فهو كالزنا، وليس في شريعة الإسلام إباحة الزنا لأجل أن الغير لا يتركه، وذلك بحمد الله واضح.
وقالوا: قد عمّت المحنة وشملت الفتنة، فالمهاجر من أرضه لم ينج من تسليم الأموال إليهم!(1/364)


قلت وبالله التوفيق: هذا خلاف ما نعلمه؛ لأنا نعلم أن كثيراً من الأرض ذات الطول والعرض لو هاجروا إليها لنجوا من تسليم الأموال إليهم ولكن بعدت عليهم الشقة فكأن الأرض لم تكن إلا حيث يهوون، هلاّ اقتدوا بالمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وما كان من هجرتهم إلى الحبشة تارة، وإلى المدينة أخرى مع التعب الشديد والسفر البعيد.
فإن قالوا: لسنا كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم!
قلت وبالله التوفيق: إن أردتم أنكم لستم كأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في التكليف بالأحكام الشرعية، فقد كذبتم جهاراً؛ لأن التكليف بالأحكام الشرعية متحد ماعدا المستثنى، ومن جملتها ترك تقوية الظالمين، والفرار إلى أرض الله الواسعة كما قال تعالى:{قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}[النساء:97].
وإن أردتم أنكم لستم كمثلهم في فعل الطاعة فلقد صدقتم، فإنهم أطاعوا الله سبحانه وأنتم عصيتم، وقلتم: إنا نخاف الضياع إذا هاجرنا إلى غير الأماكن التي لا تنجو من تسليم الأموال فيها، وقد جربنا تقاصر الرزق والحاجة في هذه الأماكن القريبة فضلاً عن غيرها!
قلت وبالله التوفيق: وقد وعد الله سبحانه بالرزق للمهاجرين في سبيل الله، قال تعالى: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ الله يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً}[النساء:100].(1/365)


[قول الهادي(ع) في الهجرة]
قال الهادي عليه السلامفي تفسير هذه الآية: (فمن هاجر من ديار الظالمين ولحق بدار الحق والمحقين رزقه الله من الرزق الواسع ما يرغم به أنف من ألجأه إلى الخروج من وطنه) .
وقال تعالى: {الَّذِينَ هَاجَرُوا فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلاََجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [النحل:41،42] فقال تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً}، وذلك الرزق الواسع الحسن، فقد وعد الله بذلك، وهو سبحانه لا يخلف وعده، وقد وعد إبليس بخلافه، قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً}[البقرة:268] فمن كان وعده عندكم أصدق فتوكلوا عليه فهو حسبكم.
وأما قولكم: قد جربتم تقاصر الرزق والحاجة في الأماكن القريبة فضلاً عن غيرها!(1/366)

73 / 85
ع
En
A+
A-