وفي الرواية المشهورة تصريح بمعنى هذا الذي ذكرته، وكذلك نقول بوجوب تسليم المال إذا كان يؤدي إلى تفريق شمل الظالمين، ولم يتمكن من دفعهم إلا به، كما قصد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في هذا الخبر بعينه؛ لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} وهذا من ذلك.
وأما ما كان يؤدي إلى قوة ظلم الظالمين، واستمرار دولتهم فليس في هذا الخبر شيء من الدلالة على جواز ذلك فتأمل.
فإن أبيت هذا المعنى فاعلم أن في الرواية المشهورة ما معناه أن أهل المدينة قالوا: يارسول الله أهذا أمر من الله؟ أم رأي رأيته؟
فقال: ((ليس هذا بأمر من الله، ولكنه رأي رأيته))، فإذا كان كذلك، والأمر على ما تزعم من جواز تسليم ما يقوي أعضاد الظلمة فلا يصلح دليلاً؛ لأنا لم نعلم أيقره الله على ذلك ويبيح للناس به معاونة الظالمين؟ أم لا يقره؟
فنقول: كما قال الله تعالى: {عَفَا الله عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ}[التوبة:43] لأنه قد ذكر صلى الله عليه وآله وسلم أنه لم يكن لله في ذلك أمر، فإذا كنا لا نعلم ما حكم الله تعالى فيه؟ فكيف نعتمد عليه؟ ونترك قوله تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة:2] وما وافقه من الأدلة القطعية، وهل ذلك إلا ضلال!
وقالوا: قد ذكر العلماء جواز تسليم معتاد الرصد، وهذا مثله!(1/357)
قلت وبالله التوفيق: إن معتاد الرصد إنما جعل لحفظ الطريق عن اللصوص، وعن منع المارة بخلاف ما يعطى سلاطين الجور، فإنه لتقويتهم على الفساد في الأرض بغير الحق، وتجييش حزب الشيطان، وبثهم في الآفاق لسفك الدماء وأخذ أموال الناس بالباطل، فالفرق بحمد الله بيّن، والقياس باطل.(1/358)
[الرد على القائلين بجواز تسليم بعض المال للظلمة]
وقالوا: إنما قلنا بجواز تسليم بعض المال ليسلم ما هو أكثر منه وليندفع بذلك محظوراً، وهو: اغتصاب الظلمة سائر أملاكنا لو فررنا وتركناها أو إفسادها.
قلت وبالله التوفيق: إن ذلك لا يصح التعلق به؛ لأن الله لم يجعله عذراً في محكم كتابه حيث قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[التوبة:24].(1/359)
ووجه الاستدلال بهذه الآية الكريمة على بطلان ما تمسكوا به: أن مفارقة الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة، وكذلك الأموال ولو انتهت أو فسدت؛ لأن الله تعالى لم يستثن شيئاً ولم يجعله الله عذراً ولا رخصة في ترك طاعته وطاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وترك الجهاد في سبيله، حيث قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ} إلى قوله: {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ}، والمراد بذلك طاعته تعالى وطاعة رسوله، لا مجرد المحبة التي يزعمون أنها لا تفارق قلوبهم؛ لأنه لو أراد ذلك لم يكن للآية معنى؛ لأن مجرد تلك المحبة التي يزعمون ممكنة مع عدم المفارقة للمال، فإن أبيت هذا التأويل فاعلم أن المحبة لله ولرسوله مستلزمة لطاعة الله وطاعة رسوله؛ لأن المحبوب مطاع كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ الله فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}[آل عمران:31].
وكما يروى لأمير المؤمنين كرم الله وجهه شعراً:
تعص الإله وأنت تظهر حبه .... هذا محال في القياس بديع
لو كان حبك صادقاً لأطعته .... إن المحب لمن يحب مطيع(1/360)
فإذا لم تكن مفارقة الآباء والأبناء والإخوان والأزواج والعشيرة والأموال على أنواعها، ولا خشية اغتصابها وفسادها عذر ولا رخصة في ترك طاعة الله وطاعة رسوله والجهاد في سبيله فبطريق الأولى أن لا يكون مراعاة صيانتها من الانتهاب لها وفسادها عذراً، ولا رخصة في فعل معصية، وهي تقوية الظالم على ظلمه؛ لأنه ترك طاعة الله تعالى، وهي: مباينة الظالمين، والإنفصال عنهم، وترك للجهاد في سبيله، وهو نهيهم عن المنكر بالحد إذا لم يؤثر ما هو دونه مع زيادة تقويتهم بما يسلمون إليهم، وذلك لا يخفى على عاقل، فتسليم بعض المال ليسلم الكثير إذا كان يؤدي إلى قوة ظلم الظالم فسق بصريح قوله تعالى في آخر الآية: {وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}[المائدة:108].
وقولهم: ليدفعوا بذلك محضوراً، وهو اغتصاب أموالهم وإفسادها ضلال عن الحق بيّن؛ لأنهم ولو دفعوا ذلك فقد جلبوا به من المحظورات ما لا يحصى مما هو أعظم من ذلك وأكثر، كقتل النفوس المحرمة [بغير الحق]، وتعطيل الشرائع مع أن ما ذكروه واجب عليهم تركه إذا لم يتمكنوا من حمله ولا من إفساده بأنفسهم لئلاّ ينتفع به الظالمون بنص قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ...} الآية.(1/361)