[بيان الأخبار التي لا يصح الاستدلال بها]
فإن قيل: فما الذي لا يصح الاستدلال به من الأخبار؟
قلت وبالله التوفيق: ذلك الذي لم يكن منها متواتراً، ولا متلقى بالقبول ولا موافقاً لكتاب الله سبحانه وتعالى، ولو صحَّ سنده وحصل الظنَّ بصدقه؛ فإنه لا يُقْبَلُ الاستدلال به في شيء من المسائل؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((ألا وإنَّه سيكذب عليَّ...)) الخبر، والظن لا يغني من الحق شيئاً، كما أخبر الله تعالى في كتابه؛ ولأن الأخبار قد روي أكثرها بالمعنى وهو مما يقع فيه الغلط، ولأنه قد روي المنسوخ مع عدم التمييز بينه وبين ناسخه عند كثير من الرواة، ولعدم التمييز بين روايات المؤمنين والمنافقين لعدم العلم بهم، كما قال تعالى: {مَرَدُوا على النّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ...}[التوبة:101] الآية، ولما روي عن علي عليه السلام أنه قال: (وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس:
رجل: منافق مظهر الإيمان متصنِّع بالإسلام لا يتأثَّم ولا يتحرَّج، يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم متعمداً، فلو علم الناس أنه منافق كاذب، لم يقبلوا منه، ولم يصدِّقوا قوله، ولكنهم قالوا: صاحب رسول الله [صلى الله عليه وآله] رآه وسمع منه ولقف عنه، فيأخذون بقوله، وقد أخبرك الله عن المنافقين بما أخبرك، ووصفهم بما وصفهم لك، ثم بقوا بعده عليه السلام، فتقربوا إلى أئمة الضلالة، والدعاة إلى النار بالزور والبهتان، فولّوهم الأعمال، وجعلوهم على رقاب الناس، وأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله، فهذا أحد الأربعة.(1/32)


ورجل: سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئاً لم يحفظه على وجهه، فوهم فيه ولم يتعمّد كذباً، فهو في يديه يرويه ويعمل به، ويقول: أنا سمعته من رسول الله، فلو علم المسلمون أنه وَهِمَ فيه لم يقبلوه منه، ولو علم أنه كذلك لرفضه.
ورجل ثالث: سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله شيئاً يأمر به ثم نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شيء ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ، فلو يعلم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون أنه منسوخ لرفضوه.
وآخر رابع: لم يكذب على الله ولا على رسوله، مبغض للكذب خوفاً لله وتعظيماً لرسول الله، ولم يَهِمْ بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على ما سمعه لم يزد فيه ولم ينقص منه، وحفظ الناسخ فعمل به، وحفظ المنسوخ فجنّب عنه، وعرف الخاص والعام فوضع كل شيء موضعه، وعرف المتشابه ومحكمه.
وقد كان يكون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلام له وجهان: فكلام خاص، وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله به، ولا ما عنى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيحمله السامع، ويوجِّهه على غير معرفة معناه، وما قصد به وما خرج من أجله، وليس كل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله كان يسأله، ويستفهمه حتى إن كانوا ليحبون أن يجيء الأعرابي، أو الطارئ، فيسأله عليه السلام حتى يسمعوا، وكان لا يمر بي شيء من ذلك إلا سألت عنه وحفظته) انتهى كلامه عليه السلام.(1/33)


[اعتماد أكثر المحدثين في رواياتهم على أشياع الأموية والعباسية]
ولأن أكثر المحدثين معتمدون في رواياتهم على أشياع الأموية، والعباسية وذلك معروف لمن طالع كتب السير والتواريخ.
قال العجلي في عمر بن سعد أمير الجيش الذين قتلوا سبط رسول الله الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام وسَبُوا محارم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: تابعيٌ، فقيهٌ، روى عنه الثقات، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري أعدل العدول عندهم، وإمام روايتهم، حديثه معتمد عليه في (الصحاح الستة) عندهم، وغيرها.
قال ابن المدائني: له ألفا حديث.
وقال أبو داود: حديثه ألفان ومائتا حديث.
وقد روى أبو جعفر عنه -أعني الزهري- أنه قال لعلي بن الحسين عليه السلام: كان معاوية يسكته الحلم، وينطقه العلم، فقال عليه السلام: كذبت يا زهري، بل كان يسكته الحصر، وينطقه البطر، وأي حلم مع من سفه الحق، وردّ الشرع، وحمل أولاد الأدعياء على بناته، وأظهرهم على أخواته، وكذلك صرّح القاسم بن إبراهيم عليه السلام بجرحه، وذكر الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه السلام، في (أصول الأحكام)، وأبو جعفر الهوسمي، أنه كان ممن يحرس خشبة زيد بن علي عليه السلام.(1/34)


وحكى الذهبي، وهو من الخصوم بعد أن أثنى عليه[أعني] الزهري ومجّده، وقال: إن ترجمته تحتمل أربعين ورقة أنه قال: نشأت وأنا غلام، فاتصلت بعبد الملك بن مروان، ثم توفي عبد الملك، فلزمت ولده الوليد، ثم سليمان، ثم عمر بن عبدالعزيز، ثم يزيد فاستقضاني على قضاته، ثم لزمت هشام بن عبد الملك فصيّرني هشام مع أولاده أعلّمهم، وقضى عني سبعة آلاف دينار كانت عليَّ، وحكوا عنه: أنه كان يتزيا بزي جندهم، وقال فيه بعضهم: كان الزهري جندياً جليلاً.
وحكى الذهبي في ترجمة خارجة بن مصعب قال: قدمت على الزهري، وهو صاحب شرطة بني أمية فرأيته يركب وفي يده حربة، وبين يديه الناس بأيديهم الكابركوبات، فقلت: قبّح الله ذا من عالم فلم أسمع منه.
وفي علوم الحديث للحاكم أنه قيل ليحيى بن معين: الأعمش خير أم الزهري؟ فقال: برئت منه إن كان مثل الزهري، إنه كان يعمل لبني أمية.
فهم معتمدون على من كان شأنه كذلك، ومجتنبون روايات النجباء الأطهار من عترة رسول الله صلى الله عليه وعليهم، وروايات أشياعهم رضي الله عنهم.
قال الذهبي في تأريخه: وللزيدية مذهب في الفروع في الحجاز واليمن؛ لكنه من أقوال البدع كالإمامية.
وقال الحافظ المراكشي: الجرح بالبدع كان كثيراً في المتقدمين إلى حد ثلاثمائة؛ والمراد بالبدع عندهم ما خالف مذاهبهم ولو كان حقاً.
وقال أبو بكر المروزي: من أنكر إمامة أبي بكر رُدّت شهادته؛ لمخالفة الإجماع، والمعلوم أنه لم ينعقد إجماع على ذلك إلى يومنا هذا.(1/35)


وقال ابن سمرة اليمني في (طبقاته): وفي سنة كذا وكذا، جرت في اليمن فتنتان عظيمتان إحداهما: فتنة علي بن الفضل ودعاؤه الناس إلى الكفر، والأخرى: فتنة الشريف يحيى بن الحسين الرسي، ودعاؤه الناس إلى التشيع، فانظر كيف قرن المؤمن الهادي بالكافر المضل!! والدعاء إلى الحق بالدعاء إلى الكفر!! وسماهما فتنتان، وعرّجوا في جرح أئمة الهدى، وجرح أشياعهم الأتقياء على ذلك وتعاموا عن قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا}[الأحزاب:33]، ونحو ذلك من الآيات، وعن قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به، لن تضلوا من بعدي أبداً: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي...)) الخبر، وقد تضمن هذا الخبر صحاحهم المتفق على صحتها عندهم في ألف وستمائة وخمسة أحاديث، غير ما روي عنه صلى الله عليه وآله في عترته الطاهرة، وأشياعهم، فيما لم يتفقوا على صحته من كتبهم، وغير ما رواه أهل البيت "، وشيعتهم منها -أي من التي تضمنها صحاحهم المتفق على صحتها عندهم- ستمائة وخمسة وثمانون حديثاً، تختص بعلي عليه السلام، وتسعمائة وعشرون حديثاً تختص بالعترة "، كل واحد منها يدل على إمامتهم، وفضلهم على سائر الناس، والحق ما شهدت به الأعداء، وتحكِّموا في تعديل غيرهم بلا دليل، ولا برهان، حتى قال ابن معين، وهو المعتمد على قوله في الجرح والتعديل عندهم في عبد الرزاق: لو ارتدَّ عبدالرزاق ما تركنا حديثه، فكيف يعتمد على من لم يوافق كتاب الله من ذلك! ولا سيما وقد عثر على الكذب فيها، وذلك في الجبر(1/36)

7 / 85
ع
En
A+
A-