قلت وبالله التوفيق: إذاكان دفع ما يتقوّون به من المال إليهم حراماً مع المعاوضة فكيف بدفعه من غير معاوضة‍ وفي المعاوضة انتقاص؛ لما في أيديهم من الأموال، وقوله عليه السلام: (ويستحب له إن اتّجر في شيء) معناه: ويجب عليه؛ لأن لفظ الاستحباب في عرفهم قد يطلق على الوجوب، كالكراهة تطلق على الحظر بدليل قوله عليه السلام: ولا يفعل ما يفعل فجرة التجار إلى قوله: ويستوجبون به من الله عذاباً كبيرا؛ ولأنه عليه السلام قد نص في باب أموال تجار عسكر البغي في السير من كتاب (الأحكام): أن جلب المنافع إليهم فسق.
وروى مثل ذلك عن جده القاسم عليه السلام، وقد تقدمت الرواية بلفظها يزيد ذلك وضوحاً ما قاله عليه السلام، في بعض أبواب الحج من كتاب (الأحكام) أيضاً، (حدثني أبي عن أبيه في الرجل يفرق بين طوافه وسعيه، فقال: لابأس بذلك[إن كان تفريقه ذلك لعلة مانعة] إلى قوله: فإن أبطأ عن ذلك فتركه حتى تكثر أيامه، فيستحب له أن يهريق دماً، وقد وسع في هذا غيرنا، ولسنا نقول به).
فقال: فيستحب مع أنه لم يقل بالتوسيع.(1/332)


قلت وبالله التوفيق: وماذكره الهادي والقاسم -عليهما السلام- من أن جلب المنافع إلى عسكر الظالمين فسق، هو الحق؛ لأن سبيل المؤمنين في ذلك قتالهم؛ لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي...} الآية. وجلب المنافع إليهم ينافي القتال ضرورة، فعلمنا أن ذلك غير سبيل المؤمنين، وقد قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[النساء:115].
وقال الهادي عليه السلام: أيضاً في باب معاونة الظالمين من كتاب (الأحكام) مالفظه:
(فمن كثر بنفسه أوبقوله، أو أعان بماله على محق من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فقد شرك في دمه) إلى آخر كلامه عليه السلام، ولا يقال: إن ذلك لا يكون إلا مع القصد؛ لأنه عليه السلام لم يشترط ذلك، ولأنه عليه السلام، قد جعل التجارة في عسكر الظالمين فسقاً، والتجار إنما يقصدون الزيادة في الربح فتأمل ذلك، فإن تقوى الله لاتكون بالتعسف في التأويل، ورد القول إلى ما يطابق هوى النفس.
وقال الهادي عليه السلام في كتاب (العدل والتوحيد) ما لفظه:
(كدأب الذين يعينون الظالمين، ويقيمون دولتهم بزرعهم وتجارتهم، وينصرونهم على قتل المسلمين، وهتك حريمهم، وأخذ أموالهم، ولولا التجار والزرّاعون ماقامت للظالمين دولة، ولاثبتت لهم راية، ولذلك قال تبارك وتعالى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ}[هود:113]) .(1/333)


وقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ((إن الله تعالى بعثني باللحمة والرحمة، وجعل رزقي في ظل رمحي، ولم يجعلني حراثاً ولا تاجراً، ألا إن من شرار عباد الله الحرّاثون والتجار، إلاّ من أخذ الحق وأعطى الحق))؛ لأن الحراثين يحرثون، والظالمين يلعبون، وهم يحصدون وينامون، ويجوعون ويشبعون، ويسعون في صلاحهم، وهم يسعون في هلاك الرعية، فهم لهم خدم لا يؤجرون، وأعوان لايشكرون، فراعنة جبّارون، وأهل خنا فاسقون، إن استرحموا لم يرحموا، وإ ن استنصفوا لم ينصفوا، لايذكرون المعاد، ولايصلحون البلاد، ولايرحمون العباد، معتكفون على اللهو والطنابير، وضرب المعازف والمزامير، قد اتخذوا دين الله دغلا، وعباده خولا، وماله دولا، بما يقويهم به التجار والحراثون، ثم يقولون: إنهم مستضعفون كأن لم يسمعوا قول الله تبارك وتعالى فيهم، وفيمن اعتل بمثل علتهم إذ يحكي عنهم قولهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً}[النساء:97] إلى آخر كلامه عليه السلام.
ومن كلام الهادي عليه السلام أيضاً ما ذكره في كتاب (خطايا الأنبياء) " وعلى آلهم الذي أجاب به على إبراهيم بن المحسن العلوي رحمه الله تعالى، وهذا لفظه:(1/334)


(وسألته عن رجل ساكن في بلدة، وقد تولى أمر البلدة سلطان ظالم، والسلطان يقبض منه جباية من غير طيبة من نفسه، وهو يخاف إن خرج من البلد على نفسه من التلف؟
الجواب في ذلك: إن كانت مخافته على نفسه مخافة أن يجوع في الأرض أو يعرى، أو يتلف إن خرج من تلك البلدة، فليس هذا له بعذر؛ لأن الله تعالى يرزقه في بلده و غيرها، وإن كان يخاف أن يظفر به سلطان بلده فيقتله إن خرج، ولم يكن له حيلة في الانسلال عنه، وكان لامحالة واقعاً في يده إن خرج، فله في ذلك العذر، إلى أن يأتيه الله عزوجل بفرج، وإن قدر وأمكنه أن لايعمل عملاً يأخذ منه فيه السلطان فليفعل).
وقال الهادي عليه السلام: في جواب مسائل أبي القاسم الرازي -رحمه الله تعالى- مالفظه: (وكان الخاذل بخذلانه وقعوده [عن الله] كمثل المحارب بمحاربته، لا ينفك الخاذل للمؤمنين من المشاركة للفاسقين فيما نالوه من المتقين في حكم أحكم الحاكمين...) إلى آخر كلامه عليه السلام.
قلت وبالله التوفيق: إذا كان هذا في الخاذل، وهو القاعد عن نصرة الدين وأهله، فكيف بالمعطي من المال مايهدم به الظالمون، من دين رب العالمين! وكيف بالمشير بذلك!
وقال الناصر عليه السلام في كتاب (الألفاظ) مالفظه: (فمن سوّد علينا فقد شرك في دمائنا).
قلت وبالله التوفيق: وهذا اللفظ نبوي؛ لأن الهادي عليه السلام رفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتاب (الأحكام).(1/335)


قلت وبالله التوفيق: ولا تسويد أعظم من تسليم المال إلى الجبارين؛ لأنه لولا المال لما اجتمع للظلمة من عساكرهم الكثيفة ما يضر الدين وأهله أبداً، وذلك معلوم لكل عاقل، والعلم به كافٍ في استحقاق العقاب والنكال من الله سبحانه، ومغنٍ عن القصد كالإقدام على سائر المعاصي إذ لافرق.(1/336)

67 / 85
ع
En
A+
A-