[من الأدلة الدالة على تحريم تسليم الأموال للظلمة]
(قوله تعالى: {وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيراً}).
ومما يخص تحريم تسليم الأموال إليهم قوله تعالى: {وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيراً، إِنَّ الْمُبَذّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء:26،27].
ووجه الاستدلال بهذه الآية أن التبذير لا يعدو أحد وجهين:
إما أن يكون المراد به تضييع المال أو إنفاقه في المعاصي، إن كان الأول، وهو تضييعه، فدلالة الآية على تحريم تسليمه إلى من ينفقه في المعاصي بطريق الأولى؛ لأن تسليمه إلى من كان ينفقه في المعاصي أقبح ضرورة، وإن كان الثاني، وهو إنفاقه في المعاصي، فدلالتها على تحريم تسليمه إلى من ينفقه في المعاصي بصريح لفظها، وذلك أنها لم تفصل بين أن يكون إنفاق المال بالنفس أو بالنيابة، وهنا قد جعل الظالم نائباً عنه في إنفاقه في المعاصي لما كان المعطي عالماً بذلك، ومختاراً له لأجل أن يقر في بيته، ويسكن في وطنه، وإلا فهو متمكن من أن لا يعطيهم شيئاً بأحد أمرين:
إما أن يهاجر، أو أن لا يتعلق بشيء مما يحملهم على الأخذ منه.(1/312)


(قوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ...})
ومما يخص تحريم تسليم الأموال إليهم قوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ...الآية}[النساء:5].
ووجه الاستدلال بها أن تفسيرها لا يخلو من أحد معنيين:
إما أن يكون المراد بالسفهاء الذين ينفقون المال في المعاصي، أو الذين يضيعونه، فأيهما ثبت، فلا يخلو من أحد وجهين أيضاً، وذلك: إما أن تكون الآية عامة في كل السفهاء، أو خاصة بمن يجب إنفاقه، أو يستحب أو يباح، إن كانت عامة وكان المراد بالسفهاء من ينفق المال في المعاصي فواضح؛ لأن الذين يسلمون المال إليهم وينفقونه في المعاصي قد تناولتهم الآية بصريحها؛ لأنهم ينفقونه في المعاصي من سفك الدماء ونهب الأموال، واضطهاد المحقين، وظلم الأيتام والأرامل والمساكين، ويجب أن يكون قوله تعالى: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ}[النساء:5] خاص بسد فاقة من لا يحل دمه، وستر عورته ممن يجب إنفاقه، أو يستحب أو يباح من أهل المعاصي دون الذين يبغون في الأرض بغير الحق من سلاطين الجور وأعوانهم؛ لقوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي...}الآية، وثمرة القتال إتلافهم بأي ممكن، وسلبهم وانتهاب ما يجلبون به على المسلمين، ويتقوّون به.(1/313)


ومن أطعمهم أو كساهم فقد ناقض في ذلك حكم أحكم الحاكمين، وإن كانت خاصة بمن عدا الباغين من الذين يجب إنفاقهم، أو يستحب أو يباح، وكان المراد بالسفهاء من ينفق المال في المعاصي أيضاً، فهي تدل على تحريم تسليم الأموال إلى غيرهم من الظالمين بالفحوى؛ لأنه إذا حرم تسليم المال إلى من ينفقه في المعاصي من خواص الإنسان، أو إلى من يستحب له أن ينفقه أو يباح، فبالأولى أن يحرم تسليمه إلى من ينفقه في المعاصي من غيرهم؛ لأنه لا أصل لجواز تسليم المال إليه، وهو على تلك الحال البتة، وإن كان المراد بالسفهاء من يضيع المال، فإنه يدل على تحريم تسليم المال إلى من ينفقه في المعاصي بالفحوى، سواءً كانت الآية عامة أو خاصة بمن تقدم ذكره[أما حيث كانت الآية عامة فواضح].
وأما حيث كانت خاصة بمن يجب إنفاقه أو يستحب أو يباح، فإنه إذا حرم تسليم الأموال إلى من يضيعها منهم، فإن تسليم الأموال إلى من ينفقها في المعاصي أعظم لا يخفى ذلك، وجميع ذلك مبني على أن المراد بالأموال أموال المعطين بكسر الطاء، كما هو ظاهر الآية الكريمة، لا أموال السفهاء كما ذهب إليه بعض المفسرين.
فأما على مذهبه هذا إن صح، فاعلم أنه إذا كان حرام أن يسلم إلى الإنسان نفس ما يملكه لأجل أن يضيعه أو ينفقه في المعاصي، فتسليم ما لا يملك العاصي من المال إليه لينفقه في المعاصي أعظم، ودلالة الآية على تحريمه أقوى، وذلك بحمد الله واضح.(1/314)


[من الأدلة على تحريم ذلك من السنة]
( حديث: ((من جبا درهماً...)) ووجه الاستدلال به]
ومما يخص تحريم تسليم الأموال إليهم من السنة قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((من جبا درهما لإمام جائر كبّه الله على منخريه في النار))، رواه الهادي عليه السلام في (الأحكام).
ووجه الاستدلال به أن الجباية تفيد معنيين:
أحدهما: جلب ما ينتفع به، قال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ}[القصص:57] أي: تُجلب.
والثاني: أخذ المال على وجه الاستعلاء، ومنه الجبّاء الذي يأخذ المال عن أمر السلطان.
ومن سلم المال إلى سلاطين الجور فقد جلبه لهم إما بنفسه أو بنائبه الذي يوصله إليه حيث سلّمه إليه مختاراً، إذ كان يمكنه ألاّ يسلم شيئاً بأن يهاجر، أو بأن لا يتعلق بشيء مما يطالب به، فلما ثبت ذلك كان الخبر متناولاً له؛ لأنه مشترك بين معنيين، ولا يجوز أن يحمل على أحدهما دون الآخر إلا بدليل، وإلا كان تحكماً، والدليل هنا منتفٍ؛ ولأنه إذا انتفى الدليل على إرادة البعض، مما يدل عليه المشترك من المعاني دون البعض وكان الجمع بين معانيه ممكناً وجب حمله على الجمع لغة عند العترة " ما خلا الإمام يحيى عليه السلام، فإنه قال: إنه يصح من حيث الإرادة لا اللغة، وهو محجوج بقوله تعالى: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ}[ الأحزاب:56]، الآية ولفظ يصلون مشترك بين معنيين:(1/315)


الصلاة من الله، وهي: معظم الرحمة، والصلاة من الملائكة، وهي: الاستغفار، وقد قال تعالى: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍ مُبِينٍ}[الشعراء:195] وقال تعالى: {قُرآناً عَرَبِيّاً} وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ}[إبراهيم:4]، فدل على أن ذلك من اللغة فتأمله؛ ولأنه قد جاء نحو ذلك في قول الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم .... رعيناه وإن كانوا غضابا
فلفظ السماء قد استعمله لمعنيين معاً:
أحدهما: المطر، بدليل قوله: نزل السماء.
والثاني: النبات، بدليل قوله: رعيناه، وفي قول الآخر:
وسقى الغضى والساكنيه وإن هم .... شبّوه بين جوانحي وضلوعي
فإن الغضى استعمله لثلاثة معان:
الأول: الشجر المخصوص بدليل قوله: وسقي الغضى.
والثاني: منبته ومكانه، بدليل قوله: والساكنيه.
والثالث: النار العظيمة المتوقدة في معظم الشجر، بدليل قوله: وإن هم شبّوه، ويسمى ذلك في البيتين وما جرى مجراه: الاستخدام.(1/316)

63 / 85
ع
En
A+
A-